أعادت فضائح المنتج الهوليودي هارفي وينشتاين وتحرشه بالعديد من النساء في أميركا هذه الظاهرة إلى الضوء مجدداً، كاشفة عن أنها أكثر انتشاراً مما يبدو، كما أظهرت أن كثيراً مِن النساء تعرضن للتحرش ولم يبلغن عن الأمر.
تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية لفت إلى أنه بينما كان مِن الأمور المشجعة هو أن هذه الفضائح أعطت صوتاً لشهاداتٍ قيلت وجرى تجاهلها من قبل، إلا أنها كانت محطمةً للمعنويات بسبب التعليقات المتجهة للوم الضحية.
لكنّ هذه الفضيحة في كل الأحوال، كشفت مستوىً غريباً من الجهل بقضية التحرّش الجنسي بأكملها، حسب التقرير.
فقد شهدنا خلطاً متكرراً بين مصطلحي "التحرّش" و"الاعتداء" الجنسي، ثم الإضافة المُتَّسِمة بالذعر لكلمة "المزعوم" في نهاية كل جملة، إلى جانب الافتراضات البعيدة عن الواقع حول نُدرة حوادث التحرّش الجنسي وعدم أهميّتها.
وحتى يتم قطع الشك باليقين، قدمت الغارديان دليلاً لفهم مسألة التحرّش الجنسي.
ما تعريف التحرش الجنسي؟
يُعرِّف قانون المساواة البريطاني لعام 2010 التحرُّش بأنَّه "سلوكٌ غير مرغوب ذو طبيعةٍ جنسية يُقصَد به أو يؤدي إلى انتهاك كرامة الشخص، أو خلق بيئةٍ مخيفة، أو عدائية، أو تنتقص من قدره، أو مهينة".
وهذا يتضمّن التعليقات غير اللائقة أو الموحية جنسياً، أو اللمس غير المرغوب به، أو طلب ممارسة الجنس أو المطالبة به، أو نشر مواد جنسية. وكثيراً ما يُصوَّر هذا القانون بصفته تشريعاً غامضاً ومفتقراً للوضوح، على أساس صعوبة معرفة الفرق بين المزاح وما قد يُعَد تعليقاً مُهيناً.
وبالفعل، قد تتضمن هذه المسألة بعض الفروق الدقيقة، فالإهانة أو التهديد الذي يخلقه التحرّش الجنسي يكمُن في إشعار الشخص -ذكراً كان أم أنثى- بأنَّ صفاته الجسدية هي قيمته الأساسية في مكان العمل، ما يقلّل بدوره من أيّة مهاراتٍ أو موهبة أو بصيرة أو عمل جاد آخر ربما يقدمه.
وبهذا، فإنَّ قَول "ستبلين بلاءً حسناً في هذه المؤسسة لأنَّ صدرك كبير" هو تحرشٌ جنسي، حتى لو: كُنت تعتقد أنَّ تِلك حقيقة، وحتى لو كنت لا تُحب الصدور شخصياً، وحتى لم تقُل ذلك كتمهيدٍ لطلبٍ جنسي، وحتى لو ضحك الكل على تلك الملاحظة.
ما مدى شيوع التحرّش الجنسي؟
وجد تقريرٌ أجراه المؤتمر العام لنقابات العمال في بريطانيا بالاشتراك مع مشروع Everyday Sexism لمكافحة التمييز على أساس الجنس الحادث بشكلٍ يومي أنَّ 52% من النساء قد تعرّضن لنوعٍ من التحرّش الجنسي في عملهن، ورُبعهن تقريباً قد تعرّضن للّمس دون أن يسمحن بذلك، بينما تعرّض الخُمس منهن لتلميحٍ جنسي أو محاولة تحرش.
وقبل ذلك وجدت دراسةٌ أجرتها شركة سليتر آند غوردون القانونية أنَّ 60% قد تعرّضن لتصرّفاتٍ غير لائقة في العمل، ونحو نصف المشاركات في الاستطلاع جرى تحذيرهن من سلوكٍ مثيرٍ للمشاكل قد يبدُر من شخصٍ بعينه لدى بدئهن العمل.
لماذا لا تُبلِغ النساء عن تلك الحوادث؟
تُبلّغ واحدةٌ بين كل 5 نساء عن تعرضها للتحرُّش الجنسيّ. ونتائج الإبلاغ في حد ذاتها ضعيفة: فوفقاً لتقرير المؤتمر العام لنقابات العمال في بريطانيا، 80% من المُبلِغات يجدن أنَّه لا شيء يتغيَّر، بينما قالت 16% منهن إنَّ الوضع أصبح أسوأ بعد التبليغ.
وأعلنت الحكومة في المملكة المتحدة عن فرض رسومٍ على محاكمات العمل، ما جعل قضايا التمييز باهظة التكاليف على نحوٍ قد يردع النساء عن رفع الدعاوى، خاصةً بالنسبة لمن تحصلن على أجورٍ منخفضة، حتى حكمت المحكمة العليا بكونها غير قانونية في وقتٍ سابق من العام الجاري 2017.
ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الكثير من النساء لا يُبلِغن عن تعرُّضهن لتحرُّشٍ جنسي خوفاً من السياق الثقافي الذي يوضعن فيه عندئذٍ.
وهو سياقٌ تقول الكاتبة والناشطة النسوية بياتريكس كامبل إنَّ فيه "درايةً بحدوث التحرّش الجنسيّ وتسامحاً مع هذه الممارسات، الأمر الذي يزيد من مخاطر خروج النساء إلى العلن".
وتضيف: "تغمرني المشاعر عندما أستمع إلى قصص تلك النساء. أعرف تلك القصص، وأعرف شعور العار الذي يجلبه سردها مجدداً، إذ يعرفن أنَّ هذا الحدث سيترك أثراً في حيواتهن العامة إلى الأبد".
وترى الناشطة النسوية أن ثمة لوماً خفياً للمرأة خلاصته "لأنَّكِ كنتِ في تلك الغُرفة، لأنَّه وضع يده على جسدك. وحتى إن كنتِ قد هربتِ منه، القصد هوَ أنَّك كنتِ هُناك، في غرفة ذلك الرجل".
ما الذي قد يصل بإحداهن للغرفة الفندقية الخاصة بوينشتاين وحدها؟
هناك بعض الأسباب العملية: على سبيل المثال، قد يكون وينشتاين قد كذب عليها وقال لها إنَّه هناك حفلةٌ في المكان لكنَّ الناس قد رحلوا؛ أو أنَّ الاجتماعات في هذه الصناعة دائماً ما تُعقَّد في غرف الفنادق؛ ونادراً ما يكون للممثل الصاعد رأي في مكان انعقاد الاجتماع.
ولكن في حقيقة الأمر، يبقى التحوُّل من التعامل المتحضر إلى التهديد في يد المعتدي، ولا توجد نقاط محددة لموافقة الطرفين على ما يحدث قبل الانتقال إلى النقطة التالية.
فالتحرش ليس كميعادٍ بين شخصين يعانيان فيه من سوء التواصل. ومع ذلك، فإنَّ طرح هذا السؤال يسهم في العار الذي تصفه كامبل ويبني جدار الصمت. لذا فهذا السؤال يحض على الصمت بشأن التحرش بقدر ما يكشف عن الوقائع.
نوعية النساء الأكثر تعرضا للتحرش والرجال المتورطون
عادةً ما تكون ضحية التحرش بلا سلطة في مكان العمل، سواءٌ بسبب عقدها المؤقت، أو وضعها غير المستقر، أو لصغر سنها.
ووجدت هيئة تكافؤ الفرص في بريطانيا عام 2002 أنَّ أغلبية حالات المضايقات التي تُعرَض على المحكمة هي حالاتٌ لإناث عملن في مكانٍ ما لمدةٍ تقل عن سنة.
وتقول أوغرادي: "نعتقد أنَّ هناك علاقة واضحة بين المضايقات والنساء اللواتي يعملن بعقود صفر ساعة عمل (وهي عقود عمل دون الالتزام بساعات عمل محددة)، إذ لا يحصلن على عملٍ مرةً أخرى إذا ما أثرن القلق. وهذا هو ما تفعله السلطة المطلقة في مكان العمل".
وغالباً ما يتم توصيف ضحايا المضايقات بالـ"ضعف" لهذا السبب.
ويستغل البعض ذلك ليقول إنَّه إذا كانت النساء فقط أكثر قوة قليلاً، لم يكن هذا ليحدث. ولكن في الواقع، لا يوجد شيءٌ هش بطبيعته في النساء صغيرات السن اللاتي لا يستطعن تحمل خسارة وظيفتهن.
الرجال أيضا ضعفاء وليس للضعف مصدر واحد، فيروي الممثل الأسمر تيري كروز مثلاً تعرضه للمضايقات من قِبَل أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في هوليوود، وكذلك الحال مع الممثل الأبيض جيمس فان دير بيك.
كيف تسبب السلطة في التحرش؟
تقول ناتاشا والتر، الكاتبة والناشطة النسوية: "غالباً ما يُسيء الناس فهم النظام الأبوي باعتباره نظاما شمولياً، تشعر فيه جميع النساء بالعجز طوال الوقت، ويشعر فيه جميع الرجال بالقوة طوال الوقت. هذه ليست الطريقة التي تجري بها الأمور، فالكثير من النساء يشعرن بالقوة، والكثير من الرجال يشعرون بالعجز".
المرأة، ثقافياً، تُقيَّم على أساس مظهرها، لذلك عندما تتعرض النساء للمضايقات بصورةٍ فردية، فإنَّ ذلك يعمّق من إدراكهن بأنَّ أصواتهن لن تُسمَع وآراءهن لن تُفهَم.
ومن السهل جداً أن تُسفِّه من فعلٍ ما بمجرد اجتزائه من سياقه. فغمزة من بائع البقالة تختلف عن غمزةٍ من شخصٍ يمكنه أن يطردكِ من العمل، أو يحاول مراودتكِ والوصول إليكِ وحدكِ، أو لديه سلطة عليك مفهومة وواضحة".
إثارة النساء
تقول والتر: "المشكلة الأخرى، التي أعتقد أنَّها تجعل من قصة وينشتاين آسرةً، هو أنَّنا نُغذِّي تلك الثقافة. إذ نقدّر أولئك الممثلات لأنَّهن شابات جميلات ومثيرات. كيف لنا أن نستمتع بحياتنا الجنسية دون أن ندعم ثقافة تُمتَهن فيها قيمة المرأة وتضمحل إلى ذلك الحد؟".
ربما كانت هناك أجوبة على هذا الأمر لدى الموجة الثانية من النسوية في السبعينيات والثمانينيات: فتقول بياتريكس إنَّه في هذه الفترة "أصبحت الأفكار النسوية هي اللغة المتعارف عليها. ثم بدأت الرأسمالية في تمييع الظروف التي سعينا من خلالها لإحداث تغييراتٍ هيكلية جادة.
وهذا لا يمنع الأذكياء من الفتيات من الحصول على مراتب جيدة. ما يعنيه هذا هو أنَّ العالم الذي كان من الممكن أن يكون مضيئاً ومختلفاً من خلال تجربة المرأة قد تعطَّل. لا يمكننا التقليل من إنكار جميع المؤسسات لما تعلم أنَّه يحدث طوال الوقت، ومدى تعنّتها في الاستماع إلى التجارب المشتركة بين النساء".
ما مدى سهولة إحالة قضية تحرش جنسي إلى محاكم العمل في المملكة المتحدة؟
بغض النظر عن تهمة الاعتداء الجنسي التي يجري تناولها في محكمةٍ جنائية، فإنَّ قضايا المضايقات تدخل في إطار قانون المساواة.
وتقول جولييت فرانكلين، وهي زميلة بارزة في شركة سلاتر وجوردون الأسترالية للمحاماة: "للأسف، ينحصر الأمر عادةً في شهادة الجاني والضحية، لأنَّه إذا كنتَ تنتوي التخويف (أو التحرش)، فستفعل ذلك عندما لا يكون هناك أي شخصٍ آخر".
ثم يُنظَر في الأدلة: "هل تم هذا عن طريق مراسلات البريد الإلكتروني؟ هل يمكنك الاحتفاظ بمذكرات أو أي نوع من السجلات، أو ربما يمكنك إرسال رسالة عبر البريد الإلكتروني لنفسك كي تحصلي على دليلٍ متزامن مع الواقعة. هل تواصلتِ مع مسؤول الموارد البشرية وقدّمتِ تظلماً؟
قد يكون لدى الشركات الكثير من الإجراءات التي لا يتبعها أحد: فقد يكون لديها الاستعداد الكامل لتدريب الموظفين على المساواة، ولكن لا أحد يخضع لتلك التدريبات لعشر سنوات.
ويقول فرانكلين: "هناك عدد مهول من القضايا التي تخضع للتسوية قبل وصول أطرافها إلى المحكمة، وربما يُدفع تعويضٌ ما، كما تؤخذ إجراءات أخرى. ولكن ما يمكن اعتباره المكسب الأكبر، هو توبيخ الشخص بسبب سلوكه".
ويقول مايكل نيومان، أحد المحامين العاملين بشركة لي داي للمحاماة: "من السهل بما فيه الكفاية (رفع دعوى) بطبيعة الحال، فالقانون موجود دوماً. ولكن من العسير على البعض اتخاذ قرار القيام بذلك بينما لا يزالون عاملين مقيدين بالشركة.
يضيف : ما أراه عادةً هو قيام البعض برفع دعوى فصلٍ تعسفي، وفي القضية يذكرون سلسلةً من حوادث التحرش التي لم يكونوا ليلجأوا من تلقاء أنفسهم لمحامٍ بشأنها قط، إذ كانوا سيضطرون لتحملها والتعاطي معها".
صحيحٌ أنهم كانوا يذوقون الأمرّين، ولكنَّهم لم يتمكنوا من رؤية وسيلة منطقية لرفع دعوى. إنَّه خيارٌ جاد وجذري".
ويشير إلى أنه "أحياناً ما تكون إدارة الموارد البشرية غير كافية، ولكن في كثيرٍ من الأحيان "يكون الفرد موظفاً قديماً بالمكان لدرجة تمكنه من العمل في عزلةٍ نسبية".
وقد لا يملك صاحب عملٍ صغير إدارة للموارد البشرية. "مثلًا في حالة جراج يعمل به ثلاثة أشخاص فقط.. المحزن أنَّ الأمر عالمي".
من ينبغي له حل تلك المسألة؟
يقول أوغرادي: "يمكن للنقابات أن تصبح مساراً هاماً للتعامل مع المشكلة، لأنَّها، بحكم تعريفها، فرصة للفئة العاملة للاتحاد سوياً وإعادة موازنة ديناميكيات السلطة في العمل. لقد وضعنا الكثير من السياسات بشأن التحرش الجنسي، وقمنا بوضع التوجيهات، وإعطاء التدريبات، ولدينا الآن مئات الآلاف من الممثلين المنتخبين في أماكن العمل الذين تدربوا على كيفية معالجة التمييز والتحرش في العمل.
ولكن الأمر يرجع حقاً لأرباب العمل والنقابات والحكومة. وهو ما توافق عليه بياتريكس قائلةً: "من واجب المؤسسات الآن أن تتحمل المسؤولية بشأن ذلك. إنَّها قضية سيدات يقُلن: "لم أسمح بذلك، أنت من تركته يتحرش بي". هي إذن مشكلتنا وخطأ المتحرشين.