لم تكن دموع أم عبدالرحمن تتوقف أو تجف طالما ترى ابنها عبدالرحمن يمر بأوضاع يغلب عليها أنها غير طبيعية مختلفة عن بقية أطفال العائلة أو حتى أطفال الجيران، فمظهر عبدالرحمن طبيعي للغاية إلا أنه لا يتوقف عن الحركة على الإطلاق إلا إذا غلبه النوم، ولا يستطيع التركيز في شيء حتى في اللعب الذي يهواه ويحبه جميع الأطفال.
يتخبط ويؤذي نفسه بشكل مستمر، ولا تتوقف الشكوى منه من الجميع وقد بلغ من العمر حوالي سبع سنوات إلا أن سلوكه لم يتغير.
وأصبحت أم عبدالرحمن تخشى اصطحابه معها لأي مكان سواء للسوق أو لزيارة الأقارب أو حتى الخروج للتنزه خوفاً من تعرضه لأذى أو سقوطه أو ارتطامه بشيء، وفضلت أم عبدالرحمن أن تظل في بيتها بجوار ابنها تدعو ربها أن تجد تفسيراً لحال عبدالرحمن.
حزن وقلق
عبدالرحمن الذي جاء بعد انتظار وعلى لهفة، أصبح مصدر قلق وحزن كبيرين لوالديه، أصبحا يخشيان عليه من الذهاب للمدرسة في ظل الشكوى المستمرة من المدرسين بسبب حركته المفرطة وقلة تركيزه وانتباهه داخل الفصل، إلى جانب ابتعاد زملاءه عنه ظناً منهم أنه غير طبيعي، دائماً يأتي بأفعال وتصرفات غريبة، ولا يستمر معهم في اللعب، بل يتصرف باندفاع ويفسد عليهم ألعابهم، فأصبحوا يتجنبون اللعب معه ويؤثرون الابتعاد عنه.
بعد أن تعبت وشعرت أن هناك شيئا غير طبيعي، وانه يتوجب عليها التصرف، ذهبت تطلب المشورة، منهم من قال إنه أصابه مس من الجن، وبعضهم نصحها بزيارة معالجين بالقرآن، وآخرون نصحوها بطقوس لإبطال الحسد والسحر مثل رش الملح، ومنهم من طلب منها أن تكثر الصدقة هي وأبيه لعل الله أن يشفي ابنهما.
جربت كل تلك الأمور ولم تفلح، بل إن الحالة تزداد تفاقما مع الوقت. بناءً على نصيحة أحدهم، ذهبت إلى طبيب أطفال الذي فحصه جيدأً ولم يجد بجسده شيئاً غير طبيعي، إلا أنه نصحها أن تذهب إلى طبيب نفسي فربما يكون مصابا بما يعرف باضطراب الحركة ونقص الانتباه.
بناءً على نصيحته قررت أن أن تذهب بابنها إلى مستشفى للصحة النفسية في إجراء يتحرج منه غالبية المصريين حيث يخشون أن ينتشر بين معارفهم أو أقاربهم أو جيرانهم أنه مريض نفسياً فيتعرض للسخرية أو الاجتناب.
ذهبت إلى مستشفى حلوان للصحة النفسية، وهي "تقدم رجلا وتؤخر الأخرى"، وتتلفت حولها حتى لا يراها أحد ممن تعرفه بصحبة ابنها في المستشفى.
ملايين الأطفال
اتضح بالفعل أن عبد الرحمن مريض باضطراب نفسي وسلوكي بمتلازمة تدعى "فرط الحركة ونقص الانتباه"، ليست هذه هي المفاجأة، فالمفاجأة حسب كلام الطبيب النفسي هي أن أكثر من 5% من الأطفال المصريين وهو رقم يقدر بالملايين، مصابين بهذا الاضطراب وكثير منهم يكبر دون تلقي العلاج المناسب مما يؤدي إلى مشاكل عديدة له وللمجتمع.
الطبيب بهاء شرف الدين الذي أشرف على علاج عبدالرحمن في مستشفى حلوان قال لنا إنه تم إخضاع الطفل لاختبار تقييم فرط حركة ونقص انتباه الذي يسمى "كونر" واتضح ان لديه نسبة فرط حركة عالية وكذلك نقص انتباه عالي بما يسمى النمط المختلط من "ADHA" فتم وضع برنامج علاجي وتدخلات منها جزء علاجي ومنها جزء سلوكي له ولأسرته.
وفقاً لإيضاح الخبير النفسي فإن مصطلح ADHD يتكون من دمج بين مصطلحين يعبران عن اضطراب الانتباه والتركيز (Attention Deficit Disorder – ADD)، المصحوب باضطراب فرط النشاط (Hyperactivity). ويعبر المصطلح ADHD عن المركبين الاساسيين للاضطراب: نقص الانتباه، بالاضافة الى فرط النشاط المصحوب بالسلوكيات الاندفاعية (Impulsivity/Impulsiveness).
ورغم أن قسما من الاطفال المصابين باضطراب نقص الانتباه والتركيز المصحوب بفرط النشاط (ADHD)، يعانون من جانب واحد من هذه المعادلة، الا ان معظم الاطفال يعانون من المزيج الذي يشمل الاضطرابين معا (اضطراب نقص الانتباه والتركيز واضطراب فرط النشاط). وتظهر العلامات والاعراض الاولى للإصابة باضطراب ADHD عند القيام بفعاليات تتطلب التركيز وبذل مجهود فكري، على وجه الخصوص.
يقول الدكتور محمد خالد مدير عام مستشفى حلوان للصحة النفسية إن مرض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه هو الأكثر شيوعاً بين الأطفال في مصر ، ويأتي في المرتبة الثانية مرض التوحد، ثم التبول اللإرادي المصاحب للأمراض النفسية، ثم اضطرابات الشخصية للأطفال، ثم الصرع الناتجة عن ارتفاع كهرباء المخ، كما أن هناك حالات أخرى لكنها أقل مثل التخلف العقلي إلا أن العلاج يتركز على اضرابات السلوك وليس التخلف العقلي الذي ليس له علاج.
وأشار خالد إلى أن الأمانة العامة للصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة أطلقت عدة مبادرات لعلاج الأمراض النفسية لدى الأطفال من أبرزها تخصيص شهر في العام لكل مرض نفسي وفقاً للأحرف الأبجدية، فيما تبنت مستشفى حلوان للصحة النفسية تنظيم مخيم الأبطال للأطفال الدورة الرابعة للأطفال من "سن 7 : 11 سنة"، وعقد تحت عنوان "تنمية المهارات الاجتماعية" وانتهت فعالياته يوم 6 فبراير الجاري، والذي كان يستهدف تنمية التركيز وتقليل الاندفاعية وبناء الثقة بالنفس وتنمية روح الجماعة عند الأطفال.
وأشار خالد إلى أن المستشفى قامت بجلب أحدث أجهزة قياس واختبار القدرات للتعرف على معدلات ونسب الذكاء أو نقص الانتباه وفرط الحركة لدى الأطفال ضمن جهودها لتقليل معدلات هذا المرض المنتشر بنسبة كبيرة بين الأطفال.
الإخصائي النفسي بهاء شرف الدين، أكد أن أغلب الحالات المترددة على العيادات النفسية هي لأطفال لديهم اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، مشيراً إلى أن الوحدة النفسية المتخصصة بالأطفال في مستشفى حلوان للصحة النفسية كان لها السبق في إطلاق مبادرة "برنامح تدريب الوالدين"، للتعامل مع الأطفال المصابين بهذا الاضطراب، حيث يتم عقد 8 جلسات للأمهات والأباء لتعليمهم وتدريبهم كل المهارات المطلوبة للتعامل مع الأطفال المصابين، موضحاً أن حوالي ثلث أطفال مصر يعانون من أمراض نفسية وسلوكية.
وأشار إلى البرنامج الذي يعقد منذ عام ونصف العام استطاع بالفعل تدريب عدد كبير من الأباء والأمهات ولقي استجابة كبيرة من الأهل، وأصبحت الجلسات فرصة لهم للتعرف على التجارب الناجحة في التعامل مع الأطفال والاستفادة منها.
وبعد ستة أشهر من العلاج والجلسات لعبد الرحمن يستطيع الآن وقد بلغ من العمر 7 سنوات ونصف ممارسة حياته بصورة أفضل كثيراً مما كان عليه في السابق، وتوقفت دموع أم عبدالرحمن.