وقف ديكسون ديسبومييه، الأستاذ في علوم صحة البيئة والميكروبيولوجي، أمام طلابه وقرر أن يلقي إليهم بتحدٍّ جديد وفريد من نوعه، قرر أن يطلب منهم أن يطعموا سكان مانهاتن كلهم، والبالغ عددهم 2 مليون شخصاً، باستخدام خمسة هكتارات فقط من حدائق أسطح المنازل، عندها، فغر جميع الطلبة أفواههم ذاهلين؛ لقد كان أمراً مستحيلاً!
فعندما قام طلبة الأستاذ ديسبومييه بالحساب كما طلب منهم، لم تكف الطرق التقليدية التي يعرفونها إلا لإطعام 2 بالمئة فقط من العدد المطلوب، وعندها طرح الأستاذ اقتراحه الغريب تماماً: إذا لم تكن زراعة الأسطح كافية، ماذا عن داخل البيوت؟
كانت هذه المرة الأولى التي يطرح فيها مفهوم "الزراعة العمودية" بشكل قريب من مفهومه الحالي، موقداً أذهان الطلاب وجاذباً اهتمامهم، ليظهر تصور مزرعة عمودية لأول مرة في 2001، الأستاذ تخيل ناطحة سحاب في مدينة صناعية، بـ "صفر نفايات"، في هذا المبنى، قد يكون جيرانك في الطابق الأسفل قطيعاً من الماعز، وجيران الطابق الأعلى، مجموعة متنوعة مع النباتات، ربما يكون جيرانك الجدد شتلات خس، أو كروم عنب، أو شجر موز أو برتقال، إنسَ مشاكل الجيران إذاً.
الأستاذ تحدث في عدة مقابلات له، عن مميزات هذا النظام الإيكولوجي المتكامل، ففي ناطحة السحاب المتخيلة هذه، والتي يأمل أن يراها في وقت قريب، يستفيد هذا النظام من الموارد بشكل أقصى، تسقط المياه المستخدمة في ري محاصيل الدور العلوي على الطوابق السفلى لري الفواكه والخضار، نفايات حيوانات الطابق السفلي أيضاً تستخدم لعمل كرات حيوية مضغوطة تستخدم كوقود حيوي يولد الكهرباء للمبنى، ويحكي الأستاذ بحماسة عن المميزات في كل مرة، فهو يقول أن الزراعة على طريقته من الممكن أن تضاعف إنتاج الخس على سبيل المثال حتى عشرة أضعاف المزارع التقليدية، حيث يسع القدم المربع الواحد بطريقة الزراعة العمودية 64 رأس خس سنوياً، مقارنة بمزارع الهواء الطلق الذين يزرعون سبعة أو ثمانية من رئوس الخس في القدم الواحد.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ يمكن الاستغناء عن المبيدات، والاستفادة من الموارد في ظل استهلاك مياه عذبة أقل بما يقرب من 70 في المئة، ومع إمكانية هذه الزراعة في وسط المدن فإن أفضل شئ تقدمه هذه التقنية هو تقليل المسافة اللازمة لوصول الطعام من المزرعة إلى طاولة طعامك بالتأكيد.
إليك في هذا التقرير عن أهم 5 تجارب للزراعة الرأسية التي تحدث في العالم الآن:
1- فوجيتسو (اليابان): من قبو تصنع فيه رقاقات الكمبيوتر لمزرعة خس!
كتحدٍ يقوم به اليابانيون في فوكوشيما، مدينة الكارثة النووية الأخيرة، قرروا أن يجعلوها مكاناً لنواة مشروع الزراعة الرأسية في البلاد، كإثبات أن هذه الزراعة، التي لا تحتاج إلى الشمس، ولا التربة، يمكن لها أن تتغلب على مشكلة انعدام المكان، أو ظروف خطورته، شركة فوجيتسو اليابانية، والتي تقوم بصنع رقائق أشباه الموصلات للحواسيب، قررت استغلال قبو لم يعد مستخدماً لديها، بطريقة مختلفة.
قبو الرقائق تحول إلى مزرعة خضراء صغيرة داخل مقر الشركة، حيث تزرع فيه الخس، الذي اختارت الشركة أن تجعله مميزاً بانخفاض مستوى البوتاسيوم فيه، ليصبح مناسباً لمرضى الكلى، الذين لا تحتمل أجسادهم مستوى عالٍ من المعادن.
إذا أردت أن ترى هذه المزرعة الصغيرة الفريدة، ما عليك إلا أن تخلع حذاءك على العتبة، أن تضع غطاء الرأس على شعرك، وتمر عبر حمّام الهواء المعقم، وتندهش بطبقات الخس الأخضر أمام عينيك.
أطلق على المشروع إسم "كيراي ياساي"، وهو يعني "الخضار النظيف"، حيث تقوم الشركة بزرع الخضار في غرفتها النظيفة التي كانت مخصصة للرقائق الإلكترونية قبلاً، حيث الغبار والبكتيريا أقل من الخارج، وحيث لا يوجد طين على الإطلاق، إذ يعتمد النبات على سائل مغذي ينساب إليه من المضخات، ليجري من طبقة إلى طبقة، تجعلك لا تملك أمام المنظر المدهش إلا أن تتساءل، كم من الخس هنا؟ لتتفاجأ أنك أمام خمسين ألف رأس من الخس في هذا المكان الصغير.
أحد المسؤولين عن المشروع، يقول إن طموح الشركة أن لا يكون هذا النوع من الخس منتشرا في اليابان فقط، بل إلى جميع أنحاء العالم، حيث أن الشركة تستطيع أن تنتج نفس الكمية، بنفس الجودة، طول السنة بغض النظر عن اختلاف المناخ، أو عدم وجود مساحات أراضٍ كافية، فوجود هذه المزرعة الداخلية لم يتأثر بوجوده في منطقة فوكوشيما، كما أن الشركة تجري اختبارات الإشعاع على محصولها مرتين في السنة لضمن خلوه من الإشعاع.
توجد في اليابان نماذج أخرى، مثل شركة "ميراي" للخضروات، وهي الكلمة التي تعني "المستقبل"، كرمز للصورة التي يريد العاملون عليها للزراعة في مستقبل اليابان والعالم أن تكون، فهم يعتقدون أن هذا سيكون الحل لمشكلة نقص الغذاء المتفاقمة التي ستواجهنا في المستقبل، خاصة في ظل التوقعات بزيادة عدد سكان المدن إلى أكثر من 9 مليار في 2050.
تقوم الشركة على تصدير هذه الأنظمة التي يبدعها مهندسوها لدول أخرى في العالم، مثل روسيا ومنغوليا.
المدهش فيما تقوم به الشركة أن الزراعة بهذه الطريقة هي عملية مستمرة على مدار الأربع والعشرين ساعة، لذلك فإن عملية الزراعة كاملة من البذر إلى الحصد تستغرق خمسة وثلاثين يوماً فقط بينما تستغرق الزراعة التقليدية في الهواء الطلق من سبعين إلى تسعين يوماً، وينتج هذا المصنع حوالي عشرة آلاف رأس من الخس يومياً، توزع مباشرة في أسواق اليابان، لتصل بأسرع وقت، إلى طاولات طعامكم.
2- آيروفارمز (الولايات المتحدة الأميركية): أكبر مزرعة عمودية في العالم.
في مصنع سابق للحديد الصلب في نيوارك بنيوجيرسي، يقوم الآن أكبر مشروع زراعة رأسية في العالم، على مساحة تبلغ 69 ألف قدم مربع، ويتطلع القائمون على هذا المشروع أن ينشروا إنتاجهم الصحي عالي الجودة إلى جميع الأسواق المحلية، وبينما تعتمد مثل هذه المشاريع على طريقة التغذية المائية للاستغناء عن التربة، يعتمد هذا المشروع طريقة مختلفة تسمى "آيروبونيكس".
الطريقة الجديدة تتشابه مع التغذية المائية في الاعتماد على البذر وإنماء المحصول في الأقمشة، واستخدام أضواء الليد بديلاً عن الشمس لأجل عملية التمثيل الضوئي، حيث يتم تخصيص الطول الموجي لهذا الضوء ليحقق أقصى استفادة من عملية التمثيل الضوئي مع أقل استهلاك للطاقة، لكن الاختلاف الجوهري، هو في اعتماد التغذية المائية على المحلول المغذي الذي يسري للطبقات المزروعة، أما التغذية الهوائية، فهي تعتمد على نشر التغذية عن طريق الغبار! وهي الطريقة التي تقول الشركة إنها تسرع دورة حياة النبات، كما إنها تحمل كتلة حيوية أفضل من الطرق الأخرى.
المشروع الجديد هو شراكة بين القطاعين العام والخاص، فقد مولته الهيئة العامة للتنمية الاقتصادية في ولاية نيوجيرسي بالتعاون مع شركات خاصة، وقد صممته شركة KSS المعمارية.
المشروع يقدم ما هو أكثر من المميزات المعتادة للزراعة العمودية، فبالإضافة لسرعة الحصول على المحصول، والقدرة على زراعته طوال السنة، والحد من استخدام المبيدات، وعدم اضطرارك لغسل الخضار حيث أنها لا تلامس التراب أو الملوثات، وتقليل الماء والطاقة الضائعين، هناك ما هو أكثر، فهذا المشروع يقدم أقصى استفادة من المساحة رأسياً، إذ أن القدم المربع الواحد يقدم لك 75 ضعفاً لما تقدمه الزراعة التقليدية، كما تستخدم مياهاً أقل بنسبة 95 بالمئة، ويقدر ما تستطيع إنتاجه في السنة باثنين مليون باونداً من الخضار الورقية! إن هذا فعلا لا يصدق.
3- لندن (بريطانيا): أنفاق المدينة المنسية تحت الأرض تتحول إلى الأخضر
خطرت الفكرة ببال رجل الأعمال ريتشارد بالارد، الذي شاركها بدوره مع ستيفن درينغ، لماذا لا تستغل كل هذه الأنفاق؛ بقايا الحرب العالمية الثانية المنسية تحت أرض لندن؟ ومن هنا بدأ مشروع أكبر مزرعة تحت الأرض في العالم حتى الآن.
المشروع يخطط للتخصص في بيع الأعشاب وخضروات السلطة، ويقع أسفل شوارع لندن بثلاثة وثلاثين متراً، على بعد أقل من ميلين اثنين من مركز المدينة، وهو يعد الجمهور بألا تستغرق رحلة وصول الطعام الأخضر الطازج من المزرعة إلى الطاولة أكثر من أربع ساعات فقط!
هذه الأنفاق استخدمت قبلاً كمخبأ لحماية المدنيين أثناء حدوث القصف في الحرب العالمية الثانية، وهي تقع أسفل خط سكة حديد شمال لندن في منطقة كلافام، وقد صمم المكان ليسع ثمانية آلاف شخص عند اللزوم، لكنه الآن مكان مناسب في نظر بالارد ودرينغ لزراعة المحاصيل.
المشروع يعتمد على مصادر طاقة خضراء، ويستخدم مياهاً أقل من الزراعة التقليدية بحوالي سبعين في المئة، ويأمل بالارد ودرينغ أن ينتجا المحاصيل ب"صفر تأثير" على البيئة، ويخططان لإنتاج مجموعة متنوعة من المحاصيل مثل البازلاء، والأنواع المختلفة من الفجل، والخردل، والكزبرة، والكرفس، والبقدونس، وهم يضعون في خطتهم توسيع الفكرة في الأنفاق المجاورة مستقبلاً.
4- سيؤول (كوريا الجنوبية): مزرعة رأسية في الطابق الأعلى، وفصل دراسي بالأسفل
يخطط مهندسو ومصممو المزرعة العمودية في سيؤول، أن يجعلوها من ثلاثة طوابق، حيث تزرع الخضار والمحاصيل في الطابقين الثاني والثالث، بينما يخصص الطابق الأول كفصل دراسي لتعليم الزراعة. المزارع الرأسية سوف تتحكم بها أجهزة الكمبيوتر، لتوفير دقة متناهية في تخصيص الضوء المناسب، وكذلك لضبط ظروف الحرارة والرطوبة، ومراقبة مستوى ثاني أكسيد الكربون، وقد اختيرت منطقة غرب يانغ تشون لتكون مقر هذه المزرعة الأولى من نوعها في كوريا الجنوبية.
هذه ليست المحاولة الأولى، فقد سبق وأن حاولت كوريا بناء أول مزرعة عمودية لها في مدينة ناميانغو في 2009، لكن الخطة توقفت عندما أدرك القائمون عليها أنها لن تكون فعالة من ناحية التكلفة. وزير الزراعة الكوري قال في تصريح له عن المزارع الرأسية في بلاده، أن تكلفة الصوبات الزجاجية تساوي مليون وون، أما تكاليف المزارع الرأسية فهي تقترب من العشرة ملايين وون، لتباع المحاصيل الناتجة بنفس الأسعار في النهاية، ما جعل الصفقة غير مربحة، لكن الحكومة قررت أن تعيد الكرة هذه المرة لكن ليس لأجل الربح، وإنما بهدف تطوير تكنولوجيا جديدة واكتساب الخبرات في هذا النوع من الزراعة.
5- سنغافورة: باناسونيك؛ من تصدير الشاشات إلى الخضروات
سنغافورة، كانت أفضل اختيار لشركة باناسونيك التي قررت أن تستثمر في مجال الزراعة العمودية، فهذا البلد يعد إحدى الدول ذات الاكتفاء الذاتي الغذائي المنخفض، كما أنها تشتكي أيضاً من قلة الأراضي المتاحة للزراعة في البلاد، وتعد إحدى الدول الأعلى كثافة في العالم، بل إن الوضع وصل في التدهور إلى درجة أن سنغافورة تستورد أكثر من 90 بالمئة من احتياجاتها الغذائية!
كل هذا جعل الدولة تشجع مشاريع الزراعة الرأسية فيها وتمول أبحاثها، مثل مشروع "سكاي غرينز" التابع لشركة باناسونيك، والمكون من ثلاثة طوابق عالية.
المشروع الذي خطط له أن يطعم السنغافوريين، ويشارك في حل أزمة الأرض والغذاء، بدأ إنتاجه بنجاح بالفعل، بل وإنه بدأ ببيع منتجاته لبعض سلاسل المطاعم اليابانية، ليكون أول مشروع مزرعة رأسية في سنغافورة.
ينتج المشروع كمية محدودة حالياً تقدر بـ 3.6 طناً في السنة، بتنوع كبير في المحاصيل يصل إلى عشرة أنواع، مثل الفجل الأحمر والسبانخ، لينضم هذا المشروع إلى مشاريع الشركات الأخرى المنتجة في اليابان، مع اختبارات لمشروع آخر في دبي لزراعة الفراولة رأسياً.
تقع مزرعة شركة باناسونيك، والممتدة على مساحة 248 متراً مربعاً في مصنع على مشارف المدينة، والتي تضيؤه أضواء الليد الوردية ذات الطول الموجي المعين، وتحد الشركة من الزوار لمراقبة مستويات الحرارة والرطوبة وثاني أكسيد الكربون بدقة، وتطمح الشركة لزيادة أنواع المحاصيل التي تزرعها إلى 30 نوعاً بحلول عام 2017، وتقول إنها تأمل أن تكلف المحاصيل التي تنتجه نصف ثمن تلك المستوردة من اليابان.