تعد حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي واحدة من أعظم الثورات في العصر الحديث، التي انتهت باستقلال من بطش ودمار وقتل عملت عليهم فرنسا الاستعمارية طيلة 132 سنة كاملة.
ولم يكن هذا الاستقلال وليد تضحيات هينة، بل كان نتاج تضحيات كل فئات الجزائريين الذين قدموا الغالي والنفيس من أجل أن تحيا الجزائر وترى نور الحرية بعد سنين القهر الذي مسّ جميع فئات المجتمع.
وكان لدى نساء الثورة في الجزائر دور لا يستهان به في خروج الجزائريين مهللين بالنصر يوم 5 يوليو/تموز 1962، حيث شاركت الطبيبات والفدائيات اللواتي كن ببيوتهن في استقلال بلغ ذكراه الـ61.
"عربي بوست" غاص في هذا التقرير في جزء من تاريخ الثورة الجزائرية ونقل تضحيات نساء الثورة في الجزائر، كالمجاهدة جميلة بوحيرد، والفدائيات كجميلة بوباشا، وزهرة ظريف، وأخريات ضحين بكل شيء في سبيل الله والوطن.
القصبة.. الشاهد على دماء حسيبة بن بوعلي
لا يمكن الحديث عن ثورة التحرير ودور نساء الثورة في الجزائر فيها دون التطرق إلى الأعمال البطولية التي قامت بها فئة الفدائيات، ومنهن الشهيدة حسيبة بن بوعلي إبان معركة الجزائر، حيث أظهرت بدمائها الطاهرة جبن المستعمر دقائق قبل استشهادها رفقة مجاهدين كانوا معها.
وغير بعيد عن "جامع اليهود" تنقل "عربي بوست" إلى القصبة العليا، حيث يوجد البيت الذي نسفته القوات الاستعمارية لما رفضت الشهيدة حسيبة بن بوعلي أن تسلم نفسها رفقة آخرين للعدو الذي جهز كمية كبيرة من المتفجرات بغرض تدمير البيت تدميراً كلياً.
البيت الذي أضحى تراثاً ثورياً يحكي روايات الجهاد الجزائري ضد المستعمر الفرنسي طيلة 132 عاماً، ويروي تفاصيل استشهاد البطلة حسيبة بن بوعلي يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 1957.
ولم تكن طريقة استشهاد حسيبة بن بوعلي -وهي في عمر 19 عاماً- عادية، إذ بعد العديد من العمليات البطولية والفدائية بمعية فدائيات أخريات انتهت حياتها وهي ترغب في تحرير الجزائر من المستعمر تحت ركام مبنى مازال شاهداًَ في جزائر الاستقلال على عظمة تلك التضحية.
وكانت حسيبة بن بوعلي من عائلة ميسورة الحال في مدينة الشلف (223 كيلومتراً غرب الجزائر)، إلا أنها فضلت الانخراط في العمل الثوري والمساهمة في الاستقلال إلى أن نُسف المبنى الذي كان يؤويها رفقة 3 من رفقائها وهم علي لابوانت (علي عمار)، وبوحميدي، وعمر الصغير، ليستشهدوا جميعاً.
جميلة بوباشا.. التعذيب وعنفوان الجسد الهش
وينقل التاريخ كيف اقتحم حوالي 50 عسكرياً فرنسياً منزل جميلة بوباشا ليلة 11 فبراير/شباط 1957، حيث تعرضت للضرب المبرح ومن ثم نقلها إلى مركز الأبيار، ومنه بداية جحيم التعذيب بقيادة أحد ضباط المظليين، على مدار 5 أيام، ثم إلى مركز حسين داي.
وعرفت خلالها جميلة بوباشا آلام الصعق الكهربائي، حيث يتم وصل التيار بمختلف أعضاء الجسم الحساسة، فيما يمضي الجنود الأوقات التي تتخلل عمليات الصعق بلكمها وإطفاء السجائر بجسدها.
كما تم تعليقها بوتد خشبي فوق حوض للماء، وغُطِّس رأسها مرات متتالية، إضافة إلى التعذيب بالقارورة الذي تسبب في غيابها عن الوعي لمدة يومين، ناهيك عن الشتم والتعليق على وضعها لكسر عنفوانها.
المجاهدة الجميلة التي أبدعت أنامل الفنان العالمي بابلو بيكاسو في رسمها، ترعرت وكبرت وسط أسرة ثورية، في حين لقيت تدريباً في مستشفى بني مسوس لتكون ممرضة، لكن هويتها الجزائرية كانت عائقاً أمام حصولها على شهادة التدريب.
وقامت بوباشا بعد التحاقها بثورة التحرير بعمليات فدائية، وفي تصريح نادر للمجاهدة الرمز سنة 1972 مع قناة المعهد الوطني للسمع البصري بفرنسا، ذكرت أنها التحقت بالثورة عام 1955، وكان عمرها حينها 17 عاماً، وقررت الانخراط في صفوف جبهة التحرير الوطني.
قصة بوباشا مع التعذيب جعلت العديد من المحامين العالميين يتطوعون للدفاع عنها، وعلى رأسهم المحامي الشهير جيزيل حليمي، بالمقابل دافع عنها الرئيس الأمريكي جون كينيدي والزعيم الصيني ماوتسي تونغ.
جميلة بوحيرد
الجميلة الأخرى التي طافت قضيتها ومنها قضية الثورة التحريرية العالم، هي جميلة بوحيرد، فبعدما أصيبت في كتفها نقلت إلى مستشفى العاصمة، حيث لحق بها الجنرال ماسو الذي حاول استفزازها وهي على منضدة العمليات.
نقلت بوحيرد بعدها إلى المستشفى العسكري (مايو)، تحت إشراف النقيب الفرنسي غرازياني، الذي تفنن في تعذيبها طيلة 3 أيام تحت الصاعق الكهربائي من 17 إلى 19 أبريل/نيسان 1957، الذي استهدف كل مناطق جسدها، ما سبب لها نزيفاً متواصلاً على مدار 15 يوماً.
ونقلت على إثرها إلى سجن برباروس المعروف بوحشية معذبيه، لتواجه هناك جلسات تعذيب إلى أن أغمي عليها.
وانضمت المجاهدة جميلة بوحيرد إلى جبهة التحرير الوطني في نوفمبر/تشرين الثاني 1956، بعد أن ساعدها عمها الشهيد مصطفى بوحيرد، الذي عرفها بالمجاهد الراحل ياسيف سعدي والشهيد علي لابوانت.
وكان نشاط بوحيرد مكثفاً خلال حقبة الثورة الجزائرية، لا سيما بعدما أوكلت إليها مهمة الاتصال بصانعي القنابل، ونقلها لمن سيكلف بوضعها في الأحياء الأوروبية بمدينة الجزائر.
وأدت حدة العمليات الفدائية التي نفذتها فدائيات وسط الأحياء الأوروبية إلى هلع ورعب بين المعمرين، لتكون بوحيرد المطارَدة الأهم، لعلاقتها المباشرة بلجنة التنسيق والتنفيذ التابعة لجبهة التحرير وقادة معركة الجزائر.
جميلة بوعزة
هي ثالث جميلة جزائرية قاومت الاستعمار الفرنسي إلى جوار جميلة بوباشا وجميلة بوحيرد، وتعتبر من أبرز نساء الثورة في الجزائر، والتي ولدت في مدينة البليدة شرق العاصمة الجزائر.
انضمت جميلة بوعلي إلى صفوف جبهة التحرير الوطنية أثناء اندلاع الثورة الجزائرية، وقبض عليها الجيش الفرنسي، ومن شدة التعذيب أصيبت بالجنون واضطربت نفسياً.
قامت جميلة بوعزة بزراعة قنبلة في أبريل/نيسان 1957 على شرفة مقهى كوك هاردي في الجزائر العاصمة، ما أسفر عن مقتل 4 أشخاص وإصابة كثيرين، فتم اعتقالها بسجن برباروس في الجزائر، ثم نقلت إلى سجن "بو" في فرنسا لمحاكمتها.
توفيت جميلة بوعزة في الجزائر العاصمة صباح 12 يونيو/حزيران 2015.
الفدائية زهرة ظريف..
ومن النسوة اللواتي سجلهن تاريخ الجزائر بأحرف من دم نجد المجاهدة والفدائية زهرة ظريف التي تركت مقاعد الدراسة من أجل أن تلتحق بالثورة بغية المساهمة ولو بالقليل في تحرير الجزائر.
وكانت ظريف من أوائل النسوة اللواتي قمن بزرع القنابل اليدوية وسط الساكنة الأوروبية وكان ذلك يوم 30 سبتمبر/أيلول 1956 وتحديداً على الساعة 18 و35 دقيقة عملية فدائية نوعية خطط لها ثوار الجزائر من أجل ضرب الاستعمار الفرنسي في مقتل.
وكانت العملية التي نفذتها الفدائية زهرة ظريف بمقهى "ميلك بار" وسط العاصمة الجزائرية قد أسفرت عن مقتل 3 أشخاص مع إصابة 60 شخصاً بجروح متفاوتة الخطورة مباشرة بعد انفجار قنبلة يدوية وضعت بالمحل الذي كان يختص بصنع "آيس كريم".
وبعد عمليات عديدة قامت قوات الاحتلال الفرنسي باعتقال المناضلة ظريف مع الراحل ياسف سعدي، في القصبة بالجزائر العاصمة، في أكتوبر/تشرين الأول 1957، وحكم عليها في أغسطس/آب 1958 بالسجن لمدة 20 سنة، مع الأشغال الشاقة.
وكانت ظريف قد سجنت في قسم النساء بسجن بربروس، ثم تم نقلها إلى السجون الفرنسية، وبقيت هناك من عام 1957 حتى أطلق سراحها في 5 يوليو/تموز 1962، وهو تاريخ استقلال الجزائر.
نساء الثورة في الجزائر
وإن ضجت صفحات الكتب ببطولات زميلات حسيبة بن بوعلي، إلا أن هناك آلافاً غيرهن سرن على الدرب ذاته، وفي هذا الخصوص يقول أستاذ التاريخ بجامعة وهران، رابح لونيسي، إن دور نساء الثورة في الجزائر بدأ حتى قبل حرب التحرير الوطني (1954- 1962)، فهي الوسط الذي حافظ على الهوية الوطنية، وهي التي ربت أجيالاً رافضة للوجود الاستعماري.
ويستشهد أستاذ لونيسي بكيفية تعامل الأمهات مع ما كان يتلقاه الأطفال بالمدارس الفرنسية، فيعملن على تصفية الجيد من الرديء، مستذكراً صورة الأمهات وهن يروين بطولات الانتفاضات الشعبية التي تصدت للغزو الفرنسي، وهو الفضل نفسه الذي يتحدث عنه رئيس أول حكومة جزائرية مؤقتة، فرحات عباس، ليكُنّ المصدر الأساسي في ترسيخ الهوية الجزائرية.
أما أثناء الثورة التحريرية، فيمكن تقسيم الدور النسوي إلى عدة أقسام؛ لعل أبرزها، بحسب الدكتور لونيسي، دور النساء في المدينة ودورهن في الأرياف، إذ عملت النساء في المدينة على توسيع مجال الثورة التحريرية لنقطة النفوذ والوجود الرئيسي للإدارة الفرنسية، مستدلاً بمعركة الجزائر (1956- 1957) التي أسمعت صوت الجزائر دولياً من قلب العاصمة.
وكان للمرأة دور وحيز مركزي في تلك العملية، من خلال شبكات سلال حاملات القنابل، التي استهدفت مراكز وجود العدو وعساكره ومعمريه، وحققت نساء الثورة في الجزائر أهداف الثورة رغم ما تعرضن له من تعذيب وتنكيل، وهو ما كشف عنه كتاب جورج أرنو وجاك فيرجيس.
على مستوى الأرياف اتخذت نساء الثورة في الجزائر بدورهن كل وسيلة لدعم ثورة الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، فكن الملجأ للزاد من طبخ وغسيل وإخفاء، كما عملن على تتبع أثر العدو وإيصال المعلومات للمجاهدين.
أما على مستوى الجبال، فكانت نساء الثورة في الجزائر من الطبيبة والممرضة وحاملة السلاح، ناهيك عن العمل التخابري (جمع المعلومات) حتى من داخل الثكنات العسكرية، وهو ما يعتبره أستاذ لونيسي أعظم تضحية، نظراً للنظرة السيئة التي سادت في حقهن، لاسيما أن حقيقة عملهن كانت معلومة لدى القلة القليلة من قياداتهن حفاظاً على السرية، وبغية تحصيل المعلومات التي تعد مصيرية في العمل الثوري، وتبنى بناءً عليها العمليات العسكرية.
ويتابع الأستاذ لونيسي بالقول: "عندما نرى تضحيات بهذا الحجم لا يسعنا إلا القول إنه لولاهن لما تمكنت الثورة التحريرية من بلوغ هدفها، فكن حاضنة الثورة قبل اندلاعها وأثناءها".
الجزائريات.. الهوية والثورة
ترسخت في صورة الإعلام العالمي صورة تلك المرأة الملتحفة بالحايك الذي تمسكه بيسراها، بينما تمسك بيدها اليمنى قفة (سلة) تسلمها لرجل يقابلها بأول الشارع، لم تكن تلك الصورة سوى تأكيد على التمسك بالهوية والأصالة من جهة، وتأكيد على تجسيد ذلك التمسك بإلقاء كل ثقلها في الثورة التحريرية، فتلك السلة إما تحوي مسدساً ستسلمه لمجاهد مكلف بمهمة ما، أو تحوي قنبلة تسلمتها لوضعها في أحد مراكز العدو، فهي بذلك إحدى الفدائيات.
ذلك المشهد التمثيلي في فيلم (معركة الجزائر) عكس صورة نساء الثورة في الجزائر، واللواتي ألهمن بقوتهن العالم، فجعلن خدمة الثورة محور حياتهن، وإلا فكيف كن سيلهمن فناناً عالمياً كبابلو بيكاسو أو محامياً شرساً ومحباً وفِّياً كجاك فيرجيس.
ومن أجمل الصور التي تجسد مساهمات المرأة والأسرة في الثورة التحريرية، هي الشهادة التي تنقلها الباحثة جازية بكرادة في دراستها الموسومة "مساهمة المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية بالولاية الخامسة"، وهي شهادة على لسان المجاهدة فاطنة سهولي أرملة الشهيد بن عياد بوزيان، التي تنقل كيف كانت تحمي الاشتراكات التي كان يجمعها زوجها.
لكن الأجمل أن هذه الأسرة جعلت أسفل غرفة نومها مخبأً للجنود (الثوار)، وكيف كانت تحرص على جعل أبنائها يخلدون باكراً للنوم لتجنب كشفهم للأمر.
ولعل جعل البيت مركزاً للراحة والتجمع ومخبأً للمجاهدين يعكس حجم الثقة والتماهي الذي بلغته المرأة، ومن ورائها الأسرة، مع الثورة التحريرية وأهدافها.
نساء الثورة.. تضحيات 130 سنة
تضحيات الجزائريين من أجل استقلال بلادهم لم تتوقف، وظلت متواصلة منذ أن وطئت أقدام جنود الاحتلال الفرنسي الغاشم الأراضي الجزائرية من شواطئ سيدي فرج غرب مدينة الجزائر يوم 5 يوليو/تموز 1830.
ورغم استسلام الداي حسين حاكم الجزائر إبان الحقبة العثمانية إلا أن الأهالي، رجالاً كانوا أم نساءً، دافعوا عن أرضهم وعرضهم، وأظهروا مقاومة شرسة ضد المستعمر الذي واجه شموخ الجزائريين بالحديد والنار، عبر العديد من المدن التي قاومت من عهد الأمير عبد القادر وأحمد باي، مروراً بلالة فاطمة نسومر، وصولاً إلى ثورة التحرير المجيدة.
وظلت فرنسا الاستعمارية تقتل وترمل وتيتم الجزائريين غير آبهة بمرور السنوات، إلى أن أتاها الرد بالبندقية من باتنة الأوراس ومنطقة القبائل ومن الغرب والجنوب، وكل شبر من التراب الجزائري ليلة الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، الذي انخرط فيه الجميع دون استثناء.
ويأتي هذا بعدما قررت ثلة من الشباب الجزائريين الثوار إشعال فتيل الحرب في كل ربوع الجزائر، متحدّين الإمكانيات الفرنسية الهائلة، رغم أن قادة الجيش الفرنسي حاولوا استمالة الجزائريين بكل الطرق، بعد أن هجروا وقتلوا وأحرقوا قرى بأكملها.
ولا يعد هذا العدد من الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف هو الوحيد، حيث تحدثت رئاسة الجمهورية الجزائرية يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عن العدد الرسمي لضحايا الاستعمار الفرنسي للجزائر، خلال الفترة الممتدة من 1830، حتى حصول البلاد على استقلالها سنة 1962.
وبلغ عدد شهداء الجزائر الذين دافعوا عن بلادهم 5 ملايين و630 ألف شهيد، ضحوا بحياتهم منذ المقاومات الشعبية الباسلة ضد الاستعمار الفرنسي، وخلال الثورة التحريرية المجيدة.