في ظل عدوان إسرائيل المتواصل على قطاع غزة، واستمرار الحملة المسعورة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، كيف تقاوم النساء الاحتلال على طريقتهن الخاصة؟
كانت مدن وبلدات الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين قد شهدت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ما يمكن وصفه بحالة "هستيريا العنف المنفلت" من جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي، جيشاً وشرطة ومستوطنين، علماً بأن العنف في الضفة والقدس كان العنوان الأبرز هذا العام، وحتى قبل عملية "طوفان الأقصى" العسكرية في غلاف غزة.
فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، يشن الاحتلال حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية المحتلة طالت أكثر من 3700 فلسطيني، بحسب مؤسسات معنية بشؤون الأسرى. كما يقوم جيش الاحتلال بمداهمات يومية لمدن ومخيمات الضفة ويشتبك مع التظاهرات السلمية الداعمة لقطاع غزة.
معاناة نساء الضفة الغربية المحتلة
وفي ظل هذه الأوضاع المستحيلة، تسعى نساء فلسطين للحفاظ على الثقافة وسط الهجمات المميتة في الضفة الغربية المحتلة، بحسب تقرير لصحيفة The Independent البريطانية، رصد بعضاً مما تقوم به نساؤها.
فهذه "هناء" تبحث عن مقطع فيديو مضحك على يوتيوب. وأي شيء سيفي بالغرض، طالما لم يذكر فلسطين؛ إذ يجب على الأم العازبة، التي لم ترغب في ذكر اسمها الحقيقي خوفاً على سلامتها، اجتياز عدة نقاط تفتيش إسرائيلية أثناء تنقلاتها الصباحية. وقبل عملية طوفان الأقصى، كان المطلوب التحقق من هويتها فقط، لكن الآن يتحققون من هاتفها أيضاً.
ومع كسر إسرائيل لهدنة تبادل الأسرى يوم الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول، استأنف جيش الاحتلال هجماته القاتلة ليجهز على ما تبقى من البنية التحتية والمدنيين في قطاع غزة المحاصر.
ومع قلة الاهتمام العالمي بالضفة الغربية المحتلة، تعرضت الأراضي الفلسطينية للاستهداف المستمر، من المستوطنين الإسرائيليين والجنود والضربات الجوية.
وهناء هي حرفية رائدة في Darzah، وهي منظمة غير ربحية تحافظ على الشكل الفني التقليدي للتطريز الذي توارثته النساء الفلسطينيات عبر قرون.
وفي رحلتها اليومية من الزبابدة لتوصيل أو استلام الأقمشة والغُرز من زملائها الحرفيين في القرى المحيطة بالضفة الغربية، تشهد تعرض الناس للضرب والاعتقال على أيدي جنود الاحتلال الإسرائيليين عند نقاط التفتيش، ثم تركهم غارقين في دمائهم.
وقالت هناء لصحيفة The Independent: "هناك تواجد دائم للجنود على طول طريق رحلتي. ويطلبون منّا الترجل عن السيارة ثم الاطلاع على هواتفنا. ويتحققون من تفاعلاتنا على تليغرام والشبكات الاجتماعية وما ننشره".
وأضافت: "إذا شاهدوا أي أخبار على هاتفك حول ما يحدث في غزة أو جنين أو نابلس، يستجوبونك".
كان جنود الاحتلال الإسرائيلي يستخدمون الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي أولاً للرد على المحتجين الفلسطينيين الذين يرشقونهم بالحجارة أثناء اقتحام قوات الاحتلال للأراضي المحتلة، لكن منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول تغيَّر ذلك إلى إطلاق الرصاص الحي مباشرة وفي الأجزاء العلوية من الجسم في أغلب الأحيان، بحسب تقارير المستشفيات في الضفة.
وأقرَّ قادة المستوطنين بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي زاد من نشاطه في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك بسبب تزايد التهديدات. وقال عوديد ريفيفي، عمدة بلدة إفرات الاستيطانية، لفايننشال تايمز: "لا أحد يريد المخاطرة بوقوع المزيد" من التهديدات.
واقع الأمر أن الضفة الغربية المحتلة منذ عام 1967 كانت تشهد قبل وقوع الهجمات في 7 أكتوبر/تشرين الأول أشد أعمال العنف وطأة منذ نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2005، فقد كانت قوات الاحتلال تشن هجمات شبه يومية على المنطقة.
وقد زادت قوات الاحتلال الآن من حضورها في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما يعني تفاقم خطر الاشتباكات. وقال أوهاد تال، وهو مستوطن ونائب في الكنيست عن حزب "الصهيونية الدينية" اليميني المتطرف: "لا شك أن تزايد الانتشار العسكري يُسهم في تصاعد التوتر الذي تشهده المنطقة"، "لكنه يبث الردع كذلك".
إصرار على مقاومة إسرائيل
لكن على الرغم من الرحلة المحفوفة بالمخاطر، تصمم هناء على مواصلة عمل المنظمة. وقالت للصحيفة البريطانية: "أنا أفعل ما فعلته جداتي. وأعلم أيضاً أطفالي كيفية التطريز وسأواصل فعل ذلك".
وفي حديثها عن العدوان المتصاعد منذ أكتوبر/تشرين الأول، قالت الدكتورة جانيت حبشي، المدير التنفيذي لمنظمة Darzah: "هدفهم هو تدمير روح فلسطين. بالطبع نشعر بالهزيمة؛ فقد أخذوا منا كل شيء". وأضافت: "هذه هي الطريقة الوحيدة لرد الجميل للمجتمع. لا يمكننا الاكتفاء بالجلوس بينما نعلم أنَّ هناك الكثير من الألم والمعاناة".
كانت الحملة المسعورة لتوسيع المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية المحتلة زخماً مقلقاً للغاية، وتناول تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية كيف أن المستوطنين الإسرائيليين يستقوون بالحملة الجارية على الفلسطينيين لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة.
فالمستوطن اليهودي حاييم سيلبرشتاين قال للصحيفة البريطانية إنه لا يرى إلا رداً واحداً قد يشفي الغليل بعد هجوم "طوفان الأقصى" الذي شنّته المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو توسيع المستوطنات وتعزيز السيطرة المشددة بالفعل لإسرائيل على الضفة الغربية المحتلة.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
الحفاظ على تراث فلسطين
لكن الدكتورة حبشي، التي نشأت في البلدة القديمة بالقدس، اعترفت بأنها قلقة للغاية على سلامة النساء، خاصة على "هناء" حيث يتعين عليها استخدام وسائل النقل العام للحصول على الإمدادات وتسليم القماش لهن.
وأوضحت حبشي: "المكان هنا جنوني، لا يوجد أمان. ودُمِّر منزل واحدة من حرفيينا في مخيم جنين للاجئين".
وعندما سُئلَت عمّا سيحدث إذا اضطرت لوقف التشغيل في المنظمة، غالبت حبشي مشاعرها. وردت: "سيكون ذلك كارثة".
وقالت هناء: "نحن نقاوم باستمرار، لكن هذا لا يعني أنَّ علينا المقاومة بالسلاح. بل سنقاوم بتراثنا. سنواصل التطريز وحفظ أسماء غزة وجنين بخيوطنا".
ويقول الفلسطينيون إنَّ الجيش الإسرائيلي ساوى رموزهم بالأرض خلال الصراع، بما في ذلك ضريح مخصص لشيرين أبو عاقلة، الصحفية الفلسطينية التي أطلق جنود إسرائيليون النار عليها في عام 2022.
وقالت حنين إبراهيم، مديرة وزارة الثقافة في جنين، "إنها حرب ضد الهوية. يريدون اقتلاع الهوية الفلسطينية من جذورها وتفكيكها".
وقالت إبراهيم، التي قُتل شقيقها في مارس/آذار من هذا العام على يد القوات الإسرائيلية، إنَّ ما خفف حزنها هو شعورها بالفخر عندما شاهدت صورته معروضة في "ساحة الشهداء" في جنين. لكن ألم خسارته تجدد في قلبها مرة أخرى عندما دُمِّرَت الساحة الشهر الماضي.
وفي جميع أنحاء مدينة جنين، تتناثر الأنقاض والشظايا المعدنية على الأرض حيث كانت تقف ذات يوم تماثيل وآثار طويلة. و"حصان جنين" هي منحوتة شعبية شُيِدَت في عام 2003 بعد الغزو الإسرائيلي القاتل على المدينة. وصُنِع الحصان من أجزاء من السيارات المحطمة، ومعادن من المنازل المهدمة، بالإضافة إلى لوحات من سيارة إسعاف دمرت في غارة؛ مما أدى إلى مقتل سائق سيارة الإسعاف.
كان الحصان يقف بالقرب من أحد المداخل الرئيسية لمخيم جنين للاجئين المواجه لمدينة حيفا، وهو ما يمثل "حلم اللاجئين بالعودة إلى وطنهم"، لكن السكان المحليين يقولون إنَّ القوات الإسرائيلية أزالته في 29 أكتوبر/تشرين الأول.
وقالت إبراهيم: "هذا الحصان بمثابة شاهد عيان على ما حدث في تلك المعركة عام 2002".
بدورها، قالت وفاء عفيف زكارني، مديرة لجنة الاتحاد النسائي في جنين: "الجيش الإسرائيلي يستهدف البشر والأشجار والحجارة. الشعب الفلسطيني يعيش تحت هذا الاحتلال منذ 75 عاماً".
وتابعت: "إنَّ المعاناة النفسية والاقتصادية التي تتعرض لها النساء تفوق الخيال. فأزواجهن في السجن، أو يُقتلون، أو يُمنعون من العمل في فلسطين".
وتساءلت: "لقد وقف العالم على قدمٍ وساق لإدانة الحرب في أوكرانيا، لكن ماذا عنّا؟".
لكن بينما تهدم الجرافات الإسرائيلية شوارعهم وآثارهم، فإنَّ أول ما يقوله الفلسطينيون: "سنعيد بناء ما دمروا". وقالت حنين إبراهيم: "لقد تمكنوا من تدمير الحجارة، لكن ليس أرواحنا".