هل لعبت الاستغماية وأنت صغير؟ هل مشيت يوماً مع والديك أو أحد إخوتك في طريق مظلم وتخيلتم خيالكم المنعكس على الجدران وحوشاً ضخمة تتقاتل؟ كثير منا استمتع بهذه الألعاب في صغره، حتى وإن كان يخاف من الظلام عامة. لكن إذا كان الأطفال يخافون من الظلام، وإذا كان اللعب في غرفة فيها ضوء خافت للغاية محفوفاً بالمخاطر والخوف في بعض الأحيان، فلماذا يشجع بعض خبراء التربية الآباء والأمهات على اللعب في الظلام مع أطفالهم وتشجيعهم عليه؟
تؤكد دراسة نُشرت عام 2017، أن اللعب في الظلام ينمي عقل الطفل ويقوي صحته العقلية ويزيد شجاعته، إضافة إلى أن اللعب في المساء وفي ضوء خافت أو معتم، قد يكون نشاطاً عائلياً ممتعاً، خاصة في ليالي الشتاء الطويلة.
فوائد اللعب في الظلام للأطفال
1. يساعد في نمو العقل ويثري مشاعر الأطفال وتطورها
فطرة الأطفال التوَّاقة إلى المغامرة واستكشاف ما حولهم تدفعهم بشكل طبيعي إلى الحركة والبحث عن كل جديد ليجربوه وإن كان يمثل خطراً أو تحدياً بالنسبة لهم. إذ إن إقبال الأطفال على استكشاف ما حولهم في الطبيعة هو ما يُعلِّمهم ويقوِّي شكيمتهم ويسرّع نمو عقلهم. ينقل موقع National Geographic عن أخصائيين تربويين اعتقادهم أنه بدون المخاطرة في الطفولة- كالمشي وحدهم في الحديقة أو المشي في نفق مظلم أو تحمُّل النور الخافت ليلاً على سبيل المثال- فلن يستطيع الأطفال تحمُّل أي مخاطر عندما يكبرون ويبلغون. وكما نعلم، الحياة لا تخلو من التحديات والمخاطر والقرارات الصعبة. خوف الآباء والأمهات المتزايد على أبنائهم من التجارب الحياتية الطبيعية، كالبقاء والمشي واللعب في الظلام، لا يفيدهم بقدر ما يضرهم في بعض الأحيان.
تقول أستاذة علم النفس والأعصاب بجامعة جورج تاون، د. أبيجيل مارش، إن أطفال اليوم أقل استقلالية من أسلافهم. بحسب دراسة أجريت سنة 1971، سُمح لـ55% من الأطفال الإنجليز بالسير وحدهم إلى أماكن غير المدرسة، في حين تضاءلت هذه النسبة على مر السنين إلى ما يقارب الصفر عام 2010. وتعتقد دكتورة مارش أن هذه الإحصائية تعبر عن حال الأطفال اليوم، خاصة في ظل جائحة كورونا التي منعت الكبير والصغير من الخروج خارج المنزل.
وهنا يأتي دور الآباء والأمهات المتمثل في تشجيع الطفل على مواجهة ما يخاف منه تدريجياً وبطرق مختلفة، وتدريبهم تدريجياً على التعامل مع خوفهم بشكل صحي وشجاع. ولهذا، فاللعب في الظلام مع الأبناء يخفف وطأة الخوف عند الطفل؛ لأنه يلعب مع أبويه ويشعر بالتحدي والمتعة في الوقت نفسه. ومن المهم أيضاً أن يساعد الأبوان الطفل على فهم مشاعره ومساعدته على استيعاب أن ما يخاف منه الآن لا يُخيف في الحقيقة. هذه المحادثات والتجارب، على بساطتها، تساعد على النمو العقلي والإدراكي للطفل، إذ إن التجارب المختلفة والمشاعر التي يشعر بها في أثناء هذه التجارب، تُعلمه كيف يواجه المواقف التي يخاف فيها وكيف يحل مشكلاته، كما أنها تُقويه وتعزز إدراكه واستقلاليته عن أبويه.
2. يعزز نمو المركز العاطفي لمخ الطفل
يحفز اللعب عموماً خلايا الفص اللوزي في مخ الأطفال، وهو المركز العاطفي بمخ الإنسان والمسؤول عن تنظيم المشاعر. تقول د.مارش، بحسب موقع ناشيونال جيوغرافيك، إن خلايا الفص اللوزي في المخ تضطرب قليلاً بسبب مشاعر الخوف والقلق المصاحبة للمرات الأولى للعب الأطفال في الظلام. لكن مع مرور الوقت، يصبح الفص اللوزي أكثر استقراراً ويحسن التعامل وتنظيم دفقات المشاعر عند الطفل، مما يعني أن الطفل سيصبح أكثر قدرة على التفاعل مع المواقف المخيفة بالنسبة له. فعندما يتعرض لمواقف مخيفة أكثر، سيزداد رد فعل الفص اللوزي بطبيعة الحال فينتبه الطفل لوجود الخطر ويتفاعل معه بشكل أفضل. أما إذا تعرض لمواقف أقل خطورة وخوفاً، فتعوّد دماغه هذه المواقف والمشاعر المصاحبة لها يزيد من ثبات الطفل الانفعالي وبالتالي نموه عقلياً وعمرياً.
3. خيال خصب وتجارب ثرية
من جانب آخر، يشكل بقاء الطفل في غرفة مظلمة مثلاً، أو السير في شارع مظلم إلى حد ما، تحت رعاية والديه، أو اللعب في الظلام، بيئة خصبة لتنمية خيال الطفل وتنمية مشاعره وإدراكه المعرفي للأشياء والظواهر الطبيعية. فمن منا لم يتخيّل الخيالات المنعكسة على ستائر غرفته رجلاً عجوزاً أو وحشاً مخيفاً أو شجرة عملاقة أو نمراً مخيفاً. هذه الخيالات تعتبر علامة صحية على نشاط خيال الطفل وحيويته، خاصة إذا روى الطفل حكاية عمّا رأى، أو استخدم خيالاته الليلية في حكاية يحكيها صباحاً لأبويه أو أحد أصدقائه. هنا، يتعلم الطفل استخدام مفرداته الخاصة النابعة من تجربة شخصية خاصة به وحده، فلا أحد يرى ما يراه. كما يتعلم أيضاً وصف ما رأى ووصف ما شعر به وبناء حبكة قصصية.
كل هذا يطور مهارات الطفل اللغوية ويعزز نموه العقلي ويضفى الكثير على معرفته الشخصية وإدراكه للحياة. هذه العملية في حد ذاتها قد تكون لعبة مسلية للطفل مع الوقت يشاركها ويحكي عنها لمن حوله بشكل شغف، ويتحول الوجود واللعب في الظلام من لحظة خوف عند الطفل، إلى لحظات ممتعة ومثيرة لعقله ومشاعره وفطرته الاستطلاعية.
وأخيراً، لأن التواجد واللعب في الظلام يزيدان شجاعة الأطفال وخصوبة مخيلتهم واستقلاليتهم، فإن لهما تأثيراً أيضاً على انفتاحهم على الحياة وتجاربها المختلفة. حين ينشأ الطفل خائفاً من الظلام ومعتمداً على أبويه ليشعر بالأمان والاطمئنان، فغالب الظن أن يستمر خوفه من المجهول معه حتى البلوغ والكبر. فتراه يحجم عن كل فرصة وتجربة جديدة لا يعلم عنها شيئاً. بينما، بحسب الدراسة، يكون الطفل الذي نشأ على تحدي مخاوفه في بيئة صحية وآمنة، أكثر جرأةً وانفتاحاً وشجاعة على تجربة المجهول واستكشافه لعله يجد شيئاً مثيراً ومفيداً كما كان يجد في طفولته.