دائماً ما نشاهد عبر الشاشات أطفال فلسطين الذين يتحدثون بلباقة بالغة وإيمان راسخ، في صورة منقطعة النظير عن كل أطفال العالم، ولا يتنافى ذلك مع كونه طفلاً يحب الألعاب ويلعب بالدمى، يزور الأقارب ويأخذ العيدية، يذاكر لامتحان الغد ليلاً مجبراً على نور الشموع، وربما مع صوت القصف أو "الزنانات"، وفوق كل ذلك لديه طموح وأحلام يريد أن يحققها، وأهداف يرنو إلى الوصول إليها، ذو خلق عال، واطِّلاع واسع، فائق في دراسته، ملتزم بتعاليم دينه، بارّ بوالديه، محب لجيرانه وأهله، فمَن هو صاحب الفضل في تلك التنشئة النبيلة لهؤلاء الأطفال تحت كل الظروف التي يعيشونها؟!
دور الأم الفلسطينية أعظم
قال حافظ إبراهيم في قصيدته الخالدة:
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها ** أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا ** بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى ** شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ
دائماً ما نردد هذه الأبيات الشعرية الرائعة التي تعكس بوضوح الدور العظيم الذي تقوم به الأم الصالحة والمربية العظيمة في تنشئة أبنائها على القيم النبيلة، والأخلاق العظيمة، وتعلمهم العادات الحميدة، وتغرس فيهم أن حب الأوطان من الإيمان، وأن بالعلم ترقى الأمم، وإن كان الدور الذي تقوم به كل أمهات العالم عظيم، فإن الدور الذي تقوم به الأم الفلسطينية أعظم.
تبحث أمهات اليوم عن الأسرار الذهبية لتربية أطفال أسوياء، فتحرص على اختيار مناخ وبيئة آمنة مطمئنة، وتذهب لتلقي الدورات التربوية، وتتبع وصفات الأمهات، ولا تكفّ عن سؤال الجارات والقريبات، وإذا تطرّق الأمر لاختيار الروضة والمدرسة فحدّث ولا حرج عن مدى العناء الذي تعايشه الأم، وبعد كل هذا وذاك الحرص لا نجد الأم راضية عن مستوى الطفل وما آل إليه مصيره، وربما لو كان في دولة كذا مثل ابن عمته لكان وضعهم أفضل، ولو دخل إلى المدرسة الفلانية لكان الأول على العالم، ولكنها الظروف الاقتصادية، وهلم جراً.
ما الفرق بينهم وغيرهم؟
بينما واقع الطفل الفلسطيني يفرض عليه الذهاب لمدرسة المنطقة التي يقطن بها ومسجد الحي للصلاة وحفظ القرآن، لعب الكرة في الحارة مع أبناء الجيران، وجلسة العائلة في أمسية هادئة ذات هدنة، بعيداً عن إرهاق الحياة واختياراتها التي تشتت حال الكثيرات اليوم، فإن أول وأقوى مدرسة للطفل هي أمه التي تروي له منذ نعومة أظافره عن حب الأرض وشرف الدفاع عنها، وأن تركها للمحتل خيانة، ومهما أبعدوهم عنها أو هجروهم منها، فلا بد من عودة، وسيظل مفتاح البيت في الأعناق، فمن اليوم تطيق أن تعايش ما عايشته الأسرة الفلسطينية على مر العصور، ليس سنة أو اثنتين وإنما هي أجيال تتوارث شرف الدفاع عن حقهم في موطنهم والحياة بحرية وكرامة.
ورغم كل ذلك تجد أبناءهم يُعلّمون العالم معنى الصمود والشجاعة والحرص على التفوق في شتى المجالات وتحت أي قيد وشرط، بينما في بقاع العالم أسر أخرى مطمئنة آمنة تحيا برغد، ونجد الأم لا تكلف نفسها عناء القيام بدورها الأول في الاعتناء بأطفالها وتربيتهم، وإنما تتركهم للتلفاز والهواتف النقالة يلهون، لتتفرغ هي للحديث مع صديقتها وجارتها وحلقة السمر بالنساء مع قريبتها، ثم تفاجأ الأسر بطفل يعاني من توحد أو اضطراب في اللغة والكلام، وتنشغل بعلاجه الذي ربما يستمر لسنوات، بينما أمهات فلسطين إن كان لدى أطفالهن أي نوع من الاضطرابات والبلاءات فتكون نتاج الحرب عليهم وآثارها المدمرة، وتحاول رغم ضعف الإمكانيات والوسائل أن تقدم له كل ما يمكنها من جهد ومال وحب ورعاية، وسط كل ما تعانيه هذه الأم، ليكون مسؤولية تضاف لمسؤوليتها العظيمة في هذه البقعة المباركة التي تحيا بها وهي فلسطين، فشتان بين المصنفين، بل لا يمكن أن تقارن الأم الفلسطينية بأي أم في العالم كله.
24 قيراطاً
إن كان من واجب أمهات العالم الحفاظ على نفسية أطفالهن بمقدار قيراط واحد، فإن هذا الواجب يقع على عاتق أمهات الفلسطينيين 24 قيراطاً، وذلك نظراً لما يحتمه عليهن واقعهن من آثار نفسية مدمرة.
تبدأ الأم في نقل الواقع للطفل حسب كل فئة عمرية وما يلائمها من عبارات، فذو الأربع سنوات تناسبه قصة قصيرة لغرس عقيدة وفكرة، وتعليمه بعض الأدعية التي تقال عندما نشعر بالخوف أو نسمع صوتاً قوياً، أما الشاب الكبير فلا بد أن تختلف ثقافة التربية والمتابعة، حيث ترعرع وسط تلك البيئة، فيقع على عاتقه رعاية نفسه وأسرته، وعلى والدته صحبته والاهتمام بكافة شؤون يومه ومتابعة دراسته ونفسيته، حتى يستطيع المواصلة على طريق دراسته بأقل ضرر ممكن، تحت كل قيد وشرط قد يعايشه، بل وعليه أن يسعى للتفوق حتى يخدم دعوته ويعلي شأن وطنه بعلمه.
بين الحياة والموت
تُعايش الأمهات الفلسطينيات ظروفاً قهرية، عليهن أحياناً أن يكنّ الأم والأب لأولادهن، ليتضاعف بذلك العبء عليهن، ورغم كل ذلك تجدها صابرة محتسبة فخورة بذلك، وتبتغي في كل ذلك رضا الله، وتقول "كله يهون لأجل القدس وفلسطين"، وتتعهد أن تُواصل المسير في تربية أولادها على حب فلسطين والدفاع عن الأرض والعرض بشرف وكرامة، وألا يحيدوا مهما تكالبت عليهم الأحداث كما تقول إحدى الأمهات الفلسطينيات، رداً على سؤال المحاوِر لها، هل تشعر بالندم على هدم بيتها واستشهاد زوجها وولدها، فقالت: "نفسي وبيتي وأولادي كلنا فداء للقدس وفلسطين، ولو لي ألف نَفْس وولد أقدمهم جميعاً فداءً لفلسطين".
لهؤلاء تنحني الهامات، وتقبل أياديهن، وتستحق أن تخضب بالحناء لا الدماء، هؤلاء الصابرات المحتسبات المناضلات، يستحققن بجدارة لقب أعظم أمهات الكون، فمن يتحمل مثل هذا الواقع وتلك الظروف مثلهن لولا إيمانهن بربهن، وحبهن لوطنهن، وتصديقهن لوعد الله لهن، وابتغاء مرضاته، كل ذلك لا يصدُر إلا عن قلبٍ فتيٍّ ذي إيمان راسخ وعقيدة عصماء.
وهنّ لا يربين أولادهن على حب الموت كما يتناول البعض، هؤلاء الكريمات عزيزات الأنفس يخترن الثمين من كل شيء، ويتركن الغث لمن يرتضي الدنية من الحياة، أجل يعشقن الحياة، ولكن ليست حياة الذل والمهانة والحصار والدمار، إنما يردن حياة كريمة آمنة تعز فيها نفوسهن، وترفع فيها هاماتهن، وإن كان لا بد ولا فرار من الموت فإنهن يخترن موت الكرامة، وأفضلها هي الشهادة في سبيل الله، وعلى ذلك يربين أولادهن ويتوارثن تلك التنشئة جيلاً بعد جيل، فلا تفاوض على عرضهن أو أرضهن أو أولادهن، عزيزات نفس، صامدات، فأنعم بهن من مرابطات، وأكرم بهن من أمهات مربيات.
وختاماً..
لا عبارات أقولها أجمل من كلمات خنساء فلسطين "أم نضال"، التي قَتل الاحتلال 3 من أبنائها: (هذه الحياة هي ألذ حياة يعيشها الإنسان المؤمن بالله عز وجل وهو يرى نفسه يقدم أغلى ما يملك من أجل ابتغاء مرضاة الله جلا وعلا، فالحمد لله الذي منحني هذا الصبر العظيم).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.