كنت قد تعرضت لموقف سيئ مرتين متكررتين بينهما فترة زمنية، إحداهما كنت بمفردي والأخرى كنت بصحبة أبنائي، في المرة التي كنت فيها بمفردي أصابني هزال داخلي غريب، ملأ جوفي الفراغ، ولم أعد أرى ما حولي. أما المرة الأخرى التي تكرر فيها الموقف نفسه، فقد كنت مع أطفالي حينها، كم كنت فيها جسورة! أبدو غير مهتمة، أحتضن أطفالي ولا يشغلني من سواهم، ولم أفكر حينها في نفسي قط.
تمر أمومتنا بمزيج عجيب، قد يبدو غير مفهوم أحياناً، بين قمة الضعف ومنتهى القوة، قد يصيبك ارتباك وأنت تسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الولد مَبخلة مَجبنة"، وما دام الولد يلحق فطرةً بأبويه البخل والجبن، فمن أين جاءت قوتي وصلابتي حين تعرضت أنا وأبنائي لموقف سيئ؟!
قد ينير فهمي قليلاً لهذا المزيج ما رأيته يوماً ما، حين صدمت سيارةٌ أمّاً وصغيرها الذي تحمله بين ذراعيها، أمام عيني كانت الأم هي الأقرب إلى عجلات السيارة؛ بل كادت تكون تحتها، أما الصغير فقد كان سالماً وابتعد عنها قليلاً، قامت الأم من الأرض تصرخ وهي تقول: "ابني.. ابني!"، لم تنظر إلى جسدها، لم تتوجه حتى إلى السائق الذي صدمها؛ بل ذهبت متلهفة تحتضن ابنها وتُقلِّبه كي ترى هل أصابه شيء ما، مشهد لا أنساه رغم مرور أكثر من عشر سنوات عليه، كان مكتسياً بعاطفة غريبة، كنت أشاهده وأنا في طريقي لزيارة طبيبتي تمهيداً لولادة أول أبنائي. تساءلت حينها تساؤل المتعلِّم: أهكذا هي الأمومة إذن؟! ثم عرفت بعدها أن في الأمومة ما يمكن أن نتعلمه، لكنّ سوادها الأعظم نفطر عليه من البدايات.
ذاك المشهد السابق يلخص أقوى ما فينا. أرى أمومتي الطاغية وأنا يخفق قلبي سريعاً، وأشعر بالغضب من تلك البعوضة التي تحوم حول أبنائي في أثناء نومهم! وأظل أطاردها كالطفل الشارد خلف فراشة في حديقة غنّاء، لا لهواً أو مرحاً وإنما حماية لصغاري ولو من قرصة. ويا لَذهولي إذا رأيتها واقفةً على وجنة صغيري! كم تألمت يوماً ما ويد صغيري الوليد قد غُرست فيها إبرة الطبيب لسحب عينة من الدم، كم رأيته حينها قاسياً، إذ كيف طاوعتْه نفسه أن يدخل إبرة طويلة في يد صغيرة هزيلة لا يحسن حتى مسكها.
نحن كأمهات، أُسود على من اقترب من صغارنا، جاهزات أن ننقض دائماً، نبذل جهداً كي نتعقل قبل أن تغلبنا معهم العاطفة. نكنُّ لهم الشفقة، نملك آمالاً عريضة لهم، نقسو عليهم ثم نلتفت عنهم وروحنا متروكة عندهم. نحن مخبوزات عُجنت ونضجت بطعم ورائحة العاطفة.
إلا أننا ومع هذا، كثيراً ما نبكي ويلجمنا العجز، نبكي ونحن نشاهدهم يؤدون دوراً في مسرحية أمام الجميع، ونبكي وهم يرفعون شهادات تخرُّجهم من أي مرحلة كانت حتى لو كانت الروضة، لا عجب فأنا أبكي وأنا أنتظر حافلة المدرسة التي تقلُّهم بعد عودتهم من رحلة طويلة بدأت صباحاً وانتهت الساعة التاسعة مساءً! يمس أمومتي للغاية هذا الطابور الطويل من الأمهات اللاتي يجلسن في سياراتهن بانتظار عودة الحافلات ليستلمن بعد قليلٍ أبناءهن، يذكِّرني هذا المشهد بسكونه وقتها بذلك السكون الذي يسبق العاصفة، عاصفة العاطفة. هذا عن الإياب، وماذا عن الذهاب؟ سؤال بالطبع معروفةٌ إجابته! أنا أبكي وحافلة المدرسة تتحرك بهم إلى النزهة ذاتها صباحاً وهم يبتعدون ويلوِّحون لي من زجاج النافذة كأنهم ينخلعون من قلبي.
ما أكثر لحظات الانكسار فينا! أشاهد أمّاً تتحدث عن معاناة ابنها مع مرض خبيث وهي تقول: "أحياناً كثيرة أرغب في أن يخبرني أحد ماذا أفعل". وأتذكر فوراً رغبتي أحياناً في أن أعود ابنةً خفيفة، من فرط ما تثقل كاهلي الأمومة، ورغبتي في أن أستبدل حرف (عن) الملاصق لتلك المسؤولية الكبيرة بالحرف (من). أحتضن صغيري ليَسكن، ووراء الساتر أنا من يعوزني السكون، أنا من أتدثر بدفء ذراعيه النحيلتين، ومن تعييني الحيل ويتملكني العجز كثيراً.
نعم أنا ضعيفة! ومن قال إن الأمهات خارقات؟! ومن قال إنهن يعرفن كل شيء؟! ومن قال إنهن بطلات؟! إنهن فقط ويكفيهن (مُحِبّات)، وأكثر نقاط قوتهن هي سر ضعفهن، هن من خُلِّدن في الأثر (قلبي على ولدي انفطر وقلب ولدي عليّ حجر)، لأنهن حقاً يستطعن فعل ذلك، يغرقنك حباً وحرصاً وحماية وانشغالاً وعطاءً، وقد تفعل ذلك وقلبها مفطور لا يثنيها ما قد تلقاه من إعراض وقسوة أو تقصير معها وغلظة.
أذكر امرأة نموذجاً في الأمومة، قامت بتربية أولادها بعد وفاة زوجها عنها وهم صغار، حين أقعدها مرض الموت في الفراش بعد رحلة عناء طويلة، كانت تخدمها زوجة ابنها وكانت تحكي كم كانت تعذر بناتها في تقصيرهن في السؤال عنها، وكم كانت تبتهج لقدومهن ولو تباعَد زمنه. كانت لا تسمح لأحد بأن يذكرهن بسوء أمامها رغم كل تقصيرهن معها.
بالله قل لي: أين تجد قلباً كهذا ولو دُرت حول العالم زاحفاً وباحثاً، ولو جثوت على ركبتيك راجياً؟!، فكل من يحمل لك عاطفة كان قد رأى فيك شيئاً حرَّكه، منهم من استحسن قولك أو فعلك أو مظهرك، أما هي فتحب قبل أن ترى، وتحب حين يؤلمها ما ترى، هي الأوسع بعد الله مغفرةً. كل من يكنُّ لك عاطفة مُعرَّض لأن يعيد النظر فيها، وقد تغير مشاعره تجاهك الفِعال، فلا حب يستمر بضمانة كحب الأم لأبنائها، معك فيه ضمان مدى الحياة، كل حب قد ينقصه التكلف إلا حب أمك، لا اصطناع فيه ولا رياء.
كُثرٌ هم من كتبوا في الأمومة وقالوا، وقليل منهم من كُنَّ بالفعل أمهات، فلعلها لا تجد لذلك وقتاً، ولعلها اعتادت أن تملأ الحياة عطاءً وفِعالاً وتركت لغيرها الكلام، هي لا تمنُّ بذلك؛ بل الله يمن عليها وعلى من خلفها أن صاغها هكذا، كي تحفظ لهذه الأرض سواء نفوس السائرين عليها، وتُعِد أيادي المعمرين لها. ومع ذلك فهي خير من يخبر عن نفسه، إذ مهما حكى عنها الرجال فلن يبلغوا، ستظل حكاياهم مأسورة بما لا تخطئه عين من بطولات الأمومة، لكن أنّى للعيون أن تبصر ذلك الضعف والخوف السابحَين في جوفها. كجبل الجليد هي، الخافي منها أكثر من البادي، تربكها عواصفها الداخلية التي لا يراها ولا يحياها غيرها، وتجد صعوبة في ضبطها، كي تظهر هذه العواصف على هيئة نسمات هادئة تلامس شغاف قلوب صغارها.
اختاروا تشبيهها بالشمعة؛ مِن فرط تفانيها ونسيان ذاتها، والشمعة تبدأ شامخة منيرة ثم بعد فترة تبحث عنها فتجدها قطعة صغيرة مهملة في حامل الشموع، قد تمتد إليها يد في حركة خفيفة لتلقيها جانباً وتضع مكانها مصدراً آخر للنور في حياتها. ووُصفت في الحديث الشريف بأن أمومتها قد تورث الجبن والبخل جانبَي مضمار الوالدية التي لا يصحح فيها الآباء طريقتهمم، فيقصرون العطاء على أولادهم ويحرصون على حياتهم فقط من أجلهم. وكلاهما نموذج لأنانية ذات اتجاهين، يخلقها محو الأم لذاتها، فلا فناءها محمود؛ لما يورثه من أنانية في أبنائها، فلا يقبلون منها سوى مثل هذا العطاء، ولا قصر عطائها على أولادها محمود؛ لما فيه من أنانية تحجب عن رؤية الناس.
فكل أم بحاجة إلى النور كما هي مصدره، وكل أم بحاجة أن تظل على اتصال مع ذاتها التي عرفتها قبل أمومتها، كما هي بحاجة لأن يعي الآخرون ضعفها فيرحموها، وأن يدركوا تفرُّد عاطفتها فيقدروها، هي من عليها أن ترسم دوائر عديدة تتقلب بينها في حياتها، في القلب منها دائرة أبنائها، وأن تؤدي دورها تجاه صغارها في الوقت الذي لا تنسى فيه حقوق غيرها، سيعينها في ذلك أن تعترف بالفضل أولاً وأخيراً لله على جمال أمومتها، وأن تطمئن وتُقِر بكونها مجرد سببٍ وسط أسباب عديدة تثري حياة أبنائها، وأنها ليست اللطف الوحيد في حياتهم؛ بل هم أمانة الله لها، الأوسع بهم لطفاً ورحمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.