لطالما حملت الأنظمة أياً كانت بداخلها دائماً حتمية الخروج عن السياق في وقت ما وتجاوز المألوف بالنسبة لطريقة عمل النظام نفسه أو كل ما يحيط به، ويجعل من هذا النظام محكماً ومسيّراً بطريقة عمل غير قابلة للمساس، هذه الدعوة إلى تغيير السائد والمألوف، خاصة إذا ارتبط الأمر بالتفاعل الإنساني تخوض بشكل مستمر جدلاً واسعاً، سواء على مستوى الجنس أو اللون أو الدين أو حتى العمر، هنالك من يرى أن العواطف هنا لا تكبح حين تتعلق بالعلاقات، ولا يمكن أن تكون وفق قياس صحيح ومسلّمٍ، وهنالك في الجانب الآخر من يرفض كل دعوة للتغيير. كذا هي العلاقات العاطفية بين مختلف الأطراف في الأنظمة التعليمية التي ليست مستبعدة عن ظهور عديد الأمثلة لعلاقات حب بين طلبة وأساتذتهم، والتي تؤكد أنه لا مفر من تجاوز الجانب الموضوعي والمرور إلى الذاتي العاطفي أحياناً، وأنه لا مفر من علاقة ما بهذا الشغف والتي تستحق منك أن تنقلب أحياناً على خانة العادي والجامد، ثم إن الإنسان في نهاية الأمر هو جدال شغف وتسارع لدقات القلب ومضي نحو الأمام. فلمَ تبدأ العلاقة بين طالب وأستاذته؟ وما هي نظرة المجتمع لنوع كهذا من العلاقات؟
إيمانويل وبريجيت ماكرون
العالم مليء بعديد من الأمثلة التي تؤيد هذه النوعية من العلاقات، ولعل أشهرها الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت، وهذه العلاقة بين الثنائي التي تتميز بفارق عمري 24 سنة، هذا الحب القوي للرئيس الفرنسي والصادق الذي ساهم في تخلصه من قيود المجتمع وتمرده عليها بشخصيته ساهما في زواجهما واستمرارية هذا الزواج لسنوات طويلة بعيداً عن زيف العلاقات العادية؛ حيث تقول بريجيت في فيلم وثائقي: "لم يكن كسائر الشباب، لم يكن فتى"، وأضافت: "شيئاً فشيئاً، هزم مقاومتي".
خروج ماكرون عن المألوف بهذه العلاقة يرجع في غالبه إلى تعلّقه بجدته اليساريّة التي ضخت فيه حب الكتب، مما جعل الأمر يعلق بذهنه، كما أن قوّة ماكرون الخطابية وعبقريّته في فنون التواصل التي يشهد بها الجميع ترجع في غالبها إلى تأثير عامل المسرح الذي ارتاده منذ الصغر وهنا كانت بريجيت هي المدرّسة، هذا التأثير المباشر جعل ماكرون يعترف أيضاً في حملته الإنتخابية بأشكال أخرى من الأسرة خارجة عن المألوف ممّا ساهم في حصد دعم وتعاطف شعبي لهذا الرجل الفريد، خاصّة بعد فقدان منافسته الرئيسية لوبان لأعصابها في اللقاء الأخير من الجولة الثانية للانتخابات الفرنسيّة، ذلك بعد أن استفزها ماكرون بعدم حملها لبرنامج واضح وربحه لنقاط على حسابها فصدمت الجميع بجملة "لا يمكن أن تلعب معي دور الأستاذة والطالب!" في إشارة لزواج ماكرون وهو ما جعل الجميع يلوم لوبان. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه العلاقة بين الثنائي الفرنسي تحمل إيماناً بتطور اجتماعي في نوعية علاقات رجال السلطة الذين يتزوجون في العادة نساء أصغر منهم سناً تأكيداً على أنهم "كاملون"، وهو غير مقبول بالنسبة لدور المرأة كشريكة وكذات مستقلّة.
دوافع العلاقة
هذه العلاقة الجندرية التي كانت تصب لمصلحة الرجل بدأت بالتغير نتيجة لكسر القوالب التقليدية وتجاوز "التابو" المتوارث نتيجة عدة أسباب لعل أبرزها العامل الجنسيّ فعلى رأي فرويد "الجنس يفسّر كل شيء"، شاب اليوم يطلب المزيد من الوعي بالمشهد أكثر من المشهد ذاته، فهو يتجه نحو إحساس أن المرأة في حالة شهوة ولذة عارمة، وباعتبار أن قمة الرغبة لدى المرأة تبدأ من سن الـ35 وتصل إلى الـ45 عاماً يفسّر اختيار بعض الشباب لمن هن أكثر منه سناً، ومن هنا نشير إلى انتشار كلمة "كوغار" أو المرأة الفهد في السنوات الأخيرة، للإشارة إلى النساء اللواتي يخترن مواعدة شباب أصغر سناً منهن باعتبار أنهن يتمتعن بالذكاء، والاستقلالية على الصعيد المادي والمهني، ويعرفن فعلاً ماذا يردن. هذا إضافة إلى العوامل الاجتماعية والنفسيّة السيكولوجية على غرار التشجيع، فشخصيّة الطالب تظل دائماً معجبة بإنجازات الأستاذة وتقديره لها، وهو ما يجعله في حالة تشجيع دائم وتقدير لما تفعله، العمق والذكاء فمراكمة المرأة لتجارب أكثر من الطالب تجعلها أقدر على خوض نقاشات أعمق وأكثر جدلية مع عوامل التأثير والتأثر، مما لا يترك فرصة أمان مَن هن في سنّه باعتبار أن مجالات اهتمامه لا تتوافق مع ما يطمحن إليه، المسؤولية إذاً تعرف المرأة في هذا النوع من العلاقات كيف تدير العلاقة؟ وكيف تحافظ على عامل الإبهار متجاوزة بذلك التقلبات النفسية وحاجتهن الدائمة إلى المطلبيّة السطحيّة. كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الانجذاب هو نتيجة لشخصيّة الطالب التي تجدها مختلفة عمن هم في عمره، إضافة إلى كون قليته منفتحة أكثر مما يكون عليه الرجال بنفس سنّهن وهو ما يترك لهن مجالاً للحريّة والإحساس بالتجديد والقدرة على حب الحياة، كما أن جانب التمرد بالنسبة للطرفين يعبِّر في حد ذاته عن مغامرة تحمل في خوضها إيماناً على قدرتهم على الوصول إلى ما أبعد مما هو متعارف عليه.
نظرة المجتمع
غالبية المجتمع ترفض هذه العلاقة، بل وتحمل في هذا الرفض تقسيماً جنسياً لا يحترم الذات الإنسانية ويعتبرها قائمة على الحسابات النفعية، وهذا الرفض المجتمعي القائم على كون أن الأستاذة هي من تتزوج طالبها غير مقبول، تواصل للفكرة الخاطئة بأن الرجل هو الأكثر نضجاً، وهو من يتحمل مسؤولية الأسرة وليس العكس، فلا بأس بالنسبة لهم أن يكون الأستاذ في علاقة مع طالبته بل ويذهب في تمجيد لذكوريته في كونه "ظفر" بها وما زالت في مقتبل العمر ومقبلة على الحياة، كما أنها ستتلقى أيضاً الإطراء والتمجيد لكونها "أسقطته"، وحصلت على العلامة الكاملة في الحصول على الرجل المنتظر ذي المكانة المجتمعية الراقية بالنسبة لهم، إن حصل العكس فهناك الطامة الكبرى!
هذا الرفض التام والقائم في داخله على تقسيم جنساني هو نتيجة لدافعين؛ الأول كونها تعتبر أن حالتها أفضل بالتماشي مع كل ما هو مفهوم وعادي بالنسبة لها، وأصحاب هذه الفكرة مكتفية بما توصلت إليه دون الخوض في تفاصيل التجارب الأخرى، وتعتبر نفسها وصلت إلى النهاية في اكتشاف اللذة والشغف والحب وكل ما يجعل من العلاقة قائمة بالذات بالنسبة لها، من الغريب ومن غير المعقول البحث عن معانٍ جديدة مغايرة للعلاقات العادية، ويخير السير فيما سار عليه الآباء الأولون دون الأخذ بالتطور الحتمي للتاريخ، مما ينتج تطوراً للتفاعل الإنساني مع هذا التطور الزمني، ويطغى على هذا الفكر نظرية المكان الآمن المحدد الذي لا يجب الحياد عنه، بالنسبة للدافع الثاني فهو يجعل تجاربه السابقة معياراً للحكم على هذا النوع من العلاقات، ويسقط بهذا في التجريبية غير المعقولة التي تخيّر النظر للون واحد سوداوي رغم وجود قوس قزح ووجود مجالات أكبر للاكتشاف.
إن اختيار السير في الطرق المختلفة عما يسلكه الجميع ولو في علاقتك مع أستاذتك بحد ذاته احترام لقيمة الإنسان في قدرته على تجاوز المجتمع الأبوي للقرون الوسطى وتجاوز لقناعة أن هذا الواقع هو الأمر الحقيقي الوحيد، تفاعل مفروض بحكم الحياة وحق الإنسان في الاختيار بحكم البيولوجيا وبحكم قدرته على الحب، ولا شيء غير الحب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.