تطلبت الحداثة متمثلة بصفة خاصة في نظرية التحول إلى العلمنة اتجاهاً جديداً للحياة اليومية يخالف قيم الحياة الدينية (القروسطية)، حيث جاء التوجه العلماني الحديث برفض ما يمثله التوجه الديني، الذي يشجع علي الاحتشام، وعدم الانشغال بالمظاهر الزائفة، والاتجاه إلى نزعة استهلاكية، وقد لعب جسد المرأة هنا دوراً مهماً في هذه النظرة الجديدة للحياة والمجتمع، فالمرأة في المجتمعات الحديثة -والتي هي مجتمعات استهلاكية بالضرورة- لابد أن تهتم بجسدها الذي عرّته الحداثة فهي، كما ترى النسوية والمنظّرة السياسية الأمريكية زيلا إيزنشتين، تهتم بأدوات التجميل، والأحذية ذات النعل العالي، وكريمات تأخير سن الشيخوخة، وهذا بالخصوص يميزها عن النسوة غير الغربيات اللاتي قمعن خلف شادر، ونقاب، وحجاب، وزي طويل لا يكشف ما هرعت الحداثة لتزيينه.
ولكن هل نحن حقاً اليوم أمام امرأة غربية سافرة ومتبرجة مقابل أخرى غير غربية متدينة ومحتشمة؟
يؤكد دارسو الأزياء في المجتمعات الغربية المعاصرة أن هناك تحولاً ملحوظاً إلى "أزياء نسائية محتشمة بسيطة" بين فئة واسعة من النساء منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث تجد مثلاً أن الأكاديميات، والصحفيات، والنساء العاملات يلتزمن بزيّ بسيط محتشم، ليس بالضرورة لأسباب دينية، ولكن منهن من ترى في هذه الأزياء البسيطة أزياء (براجماتية) تناسب الحياة الغربية السريعة.
وأخريات من النسويات يدافعن عن حقوق تساوي بين الجنسيين في المجتمع المعاصر؛ ولذا يرفضن ارتداء الملابس المبهرجة، أو تلك التي تعري الجسد بشكل مبالغ فيه، والتي تؤكد سلطة الرجل على المرأة بطريقة مقابلة لسلطته عليها عبر إجبارها على "التحجب والتغطية". وتجادل تلك النسوة بأن هذين الموقفين المتضادين كليهما يمليهما الرجل على المرأة، حتى وإن كان ذلك أكثر وضوحاً في حالة (الحجاب) عنه في حالة (كشف جسد المرأة، وتصميم أردية وأدوات للتجميل تناسب ذوق الرجل)، وليس بالضرورة ما اختارته النساء. فالملاحظ أن أشهر مصممي الأزياء ومبتكري ماركات التجميل العالمية في الغرب من الرجال، كما تذكرنا عالمة الاجتماع والنسوية المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب: ثقافات مختلفة وأنواع مختلفة من الحريم" (2002).
احتشام على الموضة
من جهة أخرى تشهد المجتمعات العربية الإسلامية تحولات كبيرة فيما يخص توجهات النساء وأزيائهن في الأعوام العشر الأخيرة بفعل تأثير العولمة والنزعة الاستهلاكية كان لهما أثر تفوق على مئات المدارس التبشيرية، وكذا الإمبريالية والتي سعت لقرون لخلق أشخاص ببشرة بنية، ولكنهم بفكر ولسان غربي في الشرق خلال القرنين التاسع والعشرين. تتحدى تلك التوجهات للنساء المسلمات الكتابات الاستشراقية التي استمرت لقرون حول الأختلاف الشاسع بين الثقافتين الشرقية والغربية اجتماعياً وثقافياً وعلمياً، كما اعتقد الشاعر والكاتب الإنجليزي الشهير رويارد كبلنج المولود في الهند البريطانية (1865-1930)، إذ يقول "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا".
فبرغم أن النزعة الاستهلاكية التي تدعم التصور العلماني للحياة اليومية التي ارتبطت بالمجتمعات الأوروبية الحديثة ارتبطت أيضاً بتاريخ الاستعمار، وفرض قيم المستعمر الأوروبي على السكان المحليين في المجتمعات الشرقية. إذ سعى المستعمر إلى إجبار السكان المحليين في المجتمعات الشرقية على التخلي عن التدين، وما يتطلبه من تصوف وحياة زاهدة كاعتقاد وقيم تنتمي للعصور التقليدية، ولم يعد لها مكان في العصر الحديث. فحررت الحداثة الفرد من القيود والقيم الدينية (البيوريتانية) للتمييز بين نوعين من النساء، "فكلما تعرى الجسد كانت أكثر حداثة"، وهو الموقف الذي تبنته فئات واسعة من النساء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أيضاً وليس في الغرب فقط، سواء جاء ذلك التبني اختياريّاً أو قصريّاً وفق مرسوم قانوني، كما حدث في عدة بلدان منها تونس بعد الاستقلال (1956)، وإيران أثناء حكم الشاه. إلا أن هذا الموقف شهد تراجعاً ملحوضاً منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بسبب نشاط الإخوان المسلمين في مصر، والثورة الإسلامية في إيران. فاتخذت النساء موقفاً رافضاً للحداثة الغربية بقيمها العلمانية متجهاتٍ نحو اتجاه يتسم بالعودة "للورع والتقوى" متمثلاً أساساً في ارتداء الحجاب وأزياء محتشمة، وما أطلق عليه "زي إسلامي" أو "زي شرعي" في موقف وصفته النسوية المصرية الأمريكية ليلى أحمد "بالثورة الهادئة" في كتابها "ثورة هادئة: نهضة الحجاب الإسلامي من الشرق الأوسط حتى أمريكا (2011)". غير أننا على مر السنوات القليلة الماضية سنشهد موقفاً يبدو جلياً أنه يحمل في طياته "تناقضاً واضحاً" ابتداءً من العنوان "أزياء إسلامية محتشمة" أو "صيحات للأزياء الإسلامية". فالأزياء والصيحات التي تضمر في طياتها التجدد والتغيير المستمر والذي يصاحبه كذلك مساحيق لتجميل الوجه والتي يرى المنظرون والفقهاء أنها لا تتناسب مع نظرة سائدة لدين يميزه أساساً الثبات والزهد وبساطة المظهر.
ومع ذلك فإن هذه الموجة من موضة من "الأزياء الاسلامية" (أغطية للرأس بأشكال وألوان مختلفة ورداء جذاب لا يختلف في أناقته وتفاصيله كثيراً عما ترتدية المرأة الغربية، وكذلك ووجه تزينه الكثير من مساحيق التجميل والتي صنعت أصلاً للمرأة الغربية الحديثة) قد تبنتها فتيات ونساء من طبقات اجتماعية وخلفيات تعليمية مختلفة، حتى إنها شملت بعض المشاهير من الفنانات، وهذا الموقف شجع البنات والشابات الصغار علي الالتزام والعودة لما بات معروفاً بـ "الزي الإسلامي".
وهذا ما توَّجَهُ أيضاً التبني الرسمي من قبل العديد من الحكومات الإسلامية من خلال إقامة "أسابيع للموضة للمحجبات" في عدة بلدان إسلامية، كما أنه تم إنشاء عدد من المعاهد والمدارس التي يتعلم فيها التلاميذ من الجنسين مهارات التصميم والتسويق لزي عصري، ولكنه يتناسب مع المنظور الإسلامي للباس كما حدث في إندونيسيا (أكبر بلد إسلامي) في يونيو/حزيران من العام الماضي.
ويُعَدُّ إنشاء هذا المعهد وتلك التوجهات الرسمية ثمرة نقاشات كثيرة حول ما يتناسب مع ذوق واحتياجات الفتاة المسلمة المتعلمة والعاملة في المجتمع المعاصر، وإمكانية الجمع بين الأناقة والاحتشام في الوقت نفسه.
هذا النقاش الذي وجد طريقه إلى الفضاء العام منذ تسعينيات القرن الماضي قد بلغ ذروته، خصوصاً مع الانتشار الواسع لقنوات الشبكة العنكبوتية، مثل: المدونات الشخصية لفتيات يناقشن حياتهن اليومية بعيداً عن النظريات الأكاديمية للباحثين والباحثات في الجامعات.
وكذلك قنوات اليوتيوب حيث ستجد الفتاة آلاف الفيديوهات التي تقدمها فتيات أخريات، تُعلمها وتقترح عليها أشكالاً وتصميماتٍ مبتكرةً لأغطية عصرية للرأس، وكذلك تُطلعها على أزياء أنيقة تتناسب مع الحجاب.
لن تستغرب مثلاً عندما ترى مئات الحلقات المصورة على اليوتيوب تحمل عناوين مثل: (لفات يومية للحجاب، آخر صيحات الحجاب، أجمل لفات الحجاب للمراهقات، حجاب يناسب العيد، أحدث خطوط الموضة في عالم الأزياء الإسلامية، أزياء إسلامية عصرية، أسبوع الموضة المحتشمة،ميك اب مناسب للمحجبات).
وعلى الرغم من انتقاد تيارات محافظة لهذا التيار الجديد فإنه يلقى إقبالاً متزايداً بين المسلمات، وسيتبع ذلك بالتأكيد توفير منافذ جديدة للتسوق، سواء في المحلات التقليدية، أو عن طريق الإنترنت، وستجذب تلك المنافذ فئة واسعة من الفتيات الصغيرات والشابات اللاتي لم تفكر أمهاتهن وجداتهن في ارتداء غطاء الرأس، بعد أن اعتقدن أن الحجاب عادة قد عفا عليها الزمان.
رغم أن هذا الاتجاه "الجديد" قد شجع الفتيات على الالتزام بارتداء "أزياء إسلامية"، فإنه من ناحية أخرى يدخلنا في إشكالية من نوع جديد، فهذه الأزياء الإسلامية الجديدة "تغطي بقدر ما تُعرِّي"، ولا يُقصد هنا فقط تغطية أو تعرية جسد المرأة، ولكن أيضاً قناعات، أو ما اعتُبرت مُسلَّمات لا تقبل النقاش. إذ إن هذا الاتجاه يعّري ويتحدى النقاش الدائر بين المنظرين والمفكرين منذ عصر التنوير حول الفصل الصارم بين ما هو علماني دنيوي زائل ينتمي لعصر الحداثة، وما يعتبر دينياً ثابتاً انتمى للعصور ما قبل الحداثية والمجتمعات التقليدية.
ويتبع هذا أسئلة عدة أهمها: ماذا قد يعني انتشار "الأزياء الإسلامية" وفقاً لنظرية التحول إلى العلمنة؟ إلى أي درجة غيرت النزعة الاستهلاكية كلاً من مفهومي "التدين" و "التعلمن"؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.