جسدٌ ضعيف وقلبٌ رقيق.. لماذا تُولَدُ الفتيات مُتشبثاتٍ بالحياة!

عربي بوست
تم النشر: 2019/08/04 الساعة 15:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/08/04 الساعة 15:23 بتوقيت غرينتش
الفتيات يولدن مقاتلات، فطرة ما تُولد معهن، تُهيّئهن لمعاركهن القادمة

مَشهد (١)

طفلانِ جدِيدان أزهرَا فِي حياتِنا مُنذ وقتٍ قريب… طفلٌ وَطفلة؛ (رُقيّة) الغضّة، ساعةَ اكتحلتْ عيناي بمرآها يوم ولادتها كانت تصرخ، وترفسُ بيديها وقدميها، تتلمظُ بلسانها كقطّةٍ بريّة مشاكسة، ومن وقتٍ لآخر تناغي وتبعث بهمهمات تُخبرك فيها بأنّها خرجت أخيراً للدنيا… كانت تضج عنفواناً وحركة! بعدها بأسبوع جاء (وليد) الصغير، كان هادئاً، كثيراً ما يتجبّد، يملكُ ملامحَ فاترة لا مبالية… كأن الله أجمَلَ طمأنينة الكون كلَّها في وجهه، بل لو كان النوم والسكون إنساناً لكانه!

مَشهد (٢)

ساعاتٌ قليلة تمرُّ فوق صدرِ والدي كوطء الجبال، قلبان أنثويان يصارعان بين فكَّي الموت. نعم، لقد حظيتُ بولادة متعسّرة، قاومتْ أمي ببدنها الواهن كيما تُخرجني إلى النور، وقاوم جسدُ الطفلة الصغير الذي كنتُه آنذاك لينجو، صارعنا معاً بقلب مقاتل حتى اللحظة الأخيرة، فكان خروجنا معاً منتصرتين من تلك المحنة أشبه بمعجزة! حتى لو كلّفني ذلك قصوراً مستديماً في إحدى ذراعيّ .

وإنّ معركةً لا تنكأُ فيك جرحاً، ليست جديرة بالفخر، ولا بالذكر في عِداد انتصاراتك!

الفتيات يولدن مقاتلات، فطرة ما تُولد معهن، تُهيّئهن لمعاركهن القادمة.

بُنية ضعيفة، عواطف مرهفة، قلبٌ رقيق… سيُدفع بها دفعاً إلى مواجهة حتميّة ضروس، في الجهة المقابلة، يُولد الرجل ومعه كل الميكانيزمات التي تؤهله لخوض غمار تلك المعارك، وتكفل له الخروج منها منتصراً..

إرادةُ الحياة التي تنطوي عليها نفسُ المرأة هي خطّ دفاعها الأول في صراعاتها، أمّا الرجل فلم يكن هذا الصراع ليتطلب منه الكثير، وهنا تأتي المفارقة بين الوصول المتاح، والوصول الصعب المكافح، وإن كانت تعجبُنا الرحمةُ واللين حينما ينبعثان من موضع القوّة والقدرة، فإننا لا نملك إلا أن نندهش أضعافاً أمام قوة الإرادة والتجلّد حين تتجلى من موطن الحنان والرحمة !

جسدٌ ضعيف في مواجهة أعباء الحياة ومقتضياتها، قلبٌ رقيق يغالب قسوة الأرزاء والخطوب، عاطفة متّقدة مشبوبة تقاوم في عالم يحكمه العقل والقوّة… وبرغم هذه المتناقضات التي يتحتم عليها أن تصادمها في كل خطوة من خطواتها، كان عليها أن تمتلك قوةً ما تضارع قوة الرجل لتصارع بها سطوة الواقع.

أدركتْ بفطرتها الأنثويّة البحتة أنّ قوّتها ينبغي أن تنبعث من داخلها هي، ليستْ بحاجة لقوة خارجية تستلهم منها التعضيد، تفهم جيداً كيف تجعل من ضعفها، وعاطفتها متكأً تستند عليه وتركن إليه… كيف تصنع من أضعف قدرةٍ لديها قوّة جبّارة تنطلق بها لإثبات ذاتها، ورسوخ قدمها في وحل الصّعاب.

وأخيراً، تمكّنت من ضمّ قوّة صاحبها في معركة الحياة (الرجل)، إلى قوَّتها، فانقاد طواعيةً -أو فيما يظنُّه هو طواعية!- ليحميها، ويكفيها مؤونة خوض بعض الحروب… تاركاً لها معاركها الخاصّة التي لا تستطيع قوتُه أن تدرأها عنها.

يُولدن متشبثاتٍ بالحياة؟

لأنَّها وحدها من تحتضن بُرعم الحياة بداخلها، تغذوه من قُوْتها، وتحوطه بجسدها الضعيف عن أن يمتد إليه طرف من أذى أو ألم.

متشبثات؟

لأن حياةً تنبثق من جوف حياتها.. تماماً كما ينشعب النور المتوهج من كوّة المشكاة، تُفرغ من عافيتها في فم رضيعها غُصناً غضّاً يأخذ منها يوماً بعد يومٍ سرَّ قوّته إلى أن يستوي على سوقه، فتقيس سعة أفراحها بمقدار الذي تبذل… أوجاعاً، وسُهداً، شقاءً وجُهداً.

يتألّم الجسد، والروح جذلة راضية بما يُفضى إليها!

وحدها من أخذت على نفسها احتمال هذه الأعباء، وآلام هذه الأعباء عن طيب خاطِر، وحسن تعهُّد.. ترمي الحياة بثقلها المُضنِي عليها، فتتلقفه بشوق، ولهفةٍ هاتفةً: ألا حبّذا هذا التعب المعجون باللذة، دونكم سكون ليلي وصحة بدني، وطمأنينة نفسي.. هبوا لي بها مُضغةً صغيرة أجعلها امتداداً لروحي، ومعنًى لوجودي..!

ومن حيثُ تنبثق تلك الحياة الصغيرة، تتجلّى من خلفها الحياةُ العظيمة التي أخرجتْها، كما يُشير المرجُ الوارفُ بأصابعه الخضراء إلى نبعةِ الماء الفيّاضة التي أنبتته.

الحياة العظيمة تلك لم تكنْ لتنتصبَ ما لم تتشبثْ بالحياة، ما لمْ تبدأ وُجودَها مقاتلة، ما لم تُحارب منذ اللحظة الأولى.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

آية نصر
كاتبة فلسطينية ناشئة
آية زكي نصر، خريجة بكالوريس كلية الآداب قسم اللغة عربية، وخريجة دبلوم تأهيل تربوي، العمر 23 عاماً، مهتمة بالأدب والدراسات اللغوية. المطالعة تشكل لي هُويّة أكثر منها هواية، أؤمن بقدسية الكلمة وتأثيرها، وأرى فيها الفسحة والملاذ.. أرسم، ألقي الشعر والمقالات، أبرع في مهارات الخط العربيّ إلى حد ما.
تحميل المزيد