على مواقع التسوق الشهيرة، تتصفح شرطية بريطانية شقراء بيضاء أحدث الكريمات، وتحديداً تلك التي تُفتِّح البشرة. تنتقل من منتج إلى آخر بحثاً عن شيء ما. لا تريد تفتيح بشرتها الفاتحة أصلاً، لكنها تنفذ مخططاً أمنياً لإلقاء القبض على المتاجرين بهذه الكريمات.
كلمات السر "الزئبق والهيدروكينون والكورتيكوستيرويد"، مواد سامة في بعض هذه الكريمات تمنعها السلطات البريطانية الصحية؛ لتسببها في تلف البشرة والكلى والكبد وسرطان الجلد وحتى تسمير البشرة، عكس أثرها المزعوم.
وفي صباحٍ مُشمِس جاف بارد، دخلت مركبتان رسميتان شارعاً مسدوداً هادئاً في مدينةٍ ساحلية بريطانية. خرج الضباط وطرقوا على باب أحد المنازل، ثم فتشوه: فتحوا كل خزانة، وكل صندوق. أخرجوا كل الأثاث القديم من المرآب. كان الضباط الممولون من المنظمة الوطنية البريطانية لمعايير التجارة، يمشطون العقار بحثاً عن منتجات تفتيح بشرة غير قانونية استُوردت من آسيا وإفريقيا. صودِرَت الجِرار، وحققت الشرطة مع سكان المنزل.
سُترسل هذه المنتجات إلى المعمل وتخضع للفحص. إذا كانت تخضع للمعايير القانونية، فستُعاد إليهم، أما إذا كانت تخالف المعايير، فسُتعدَم، وتبدأ محاكمة جنائية رسمية.
أتت هذه المداهمة في نهاية حملة دامت عاماً كاملاً بهدف وضع حد لبيع منتجات التجميل الخطرة على الإنترنت.
استهداف المناطق التي تضم الأعراق والأقليات
كان مكتب المعايير التجارية يقود هذه الحملة في مناطق مثل بيكهام، حيث تنتشر أعراق من أصول إفريقية وكاريبية، لتشكل 50% من السكان.
لكن مع نمو أسواق الإنترنت، لم يعد العمل المحلي المرتكز على متاجر التجزئة – أي المتاجر العِرقية المتخصصة – كافياً. وظهر الاحتياج لمنظمةٍ وطنية، وبحلول عام 2017، جُمِعَ فريق عمل.
يقول رئيس الفريق في مكتب ساوث وورك للمعايير التجارية، بول جاندر، لصحيفة The Guardian، إنَّ العمل عادةً يتضمن تعاونَ عددٍ من الوكالات الحكومية، بالإضافة للشركات الخاصة مثل eBay وPaypal.
يتفحص الضباط المواقع، ويحذرون البائعين المتحايلين على القانون، ويعملون مع المتاجر لحجب القوائم التي تضم أسماء منتجاتٍ مشتبه فيها. لكنَّ البائعين سرعان ما يعتمدون على تكتيكاتٍ جديدة، بدءاً من استخدام رموزٍ -codes- جديدة إلى تقديم المنتجات بأسماءٍ مختلفة.
ويقول جاندر: "وفقاً للروايات، منذ منع الهيدروكينون عام 2001، شهدنا تزايداً في مبيعات منتجاتٍ قانونية ظاهرياً تحتوي على بدائل مثل حمض الكوجيك. لكن في كثيرٍ من الأحيان، لم تكن هذه المنتجات موصوفةً بدقة، وكانت تحتوي على الهيدروكينون، أو مكوناتٍ أخرى قوية المفعول".
الصناعة منتشرة في العالم بالمليارات
يصعب تحديد عدد الأشخاص الذين يستخدمون منتجات تفتيح البشرة بدقة في بريطانيا، سواء القانونية منها أو غير القانونية، لكنَّ تجارة منتجات التفتيح مزدهرة حول العالم.
ففي عام 2017، بلغت قيمة صناعة منتجات تفتيح البشرة عالمياً 4.8 بليون دولار، ويتوقع أن تنمو إلى 8.9 بليون دولار بحلول عام 2027، وتغذي هذا النمو الطبقةُ المتوسطة المتضخمة في منطقة آسيا والمحيط الهادي.
تتضمن منتجات تفتيح البشرة الكريمات، ومنتجات التقشير، والحبوب، وحتى حقن مصممة لتقليل إنتاج الميلانين. وصمم العديدَ منها عمالقةُ شركات المستحضرات؛ مثل: Unilever، وProctor، وGamble، وL'Oreal، وتصاحبها ميزانيات تسويق ضخمة.
واكتشفت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية، أنَّ 40% من النساء في الصين يستخدمن كريمات تفتيح البشرة بانتظام. وتصل النسبة إلى 61% بالهند، و77% في نيجيريا. ومن المنطقي أن تتأثر مجتمعات الشتات بهذا الأمر.
كلما فتحت البشرة كلما كنت أجمل
تتذكر زارا (29 عاماً)، التي تنتقي وتشتري مستحضرات التجميل لأحد متاجر التجزئة الكبرى في لندن، أنَّها كانت تتلقى جراراً لا تحمل أي علامات في مراهقتها من أقربائها بباكستان. وتقول: "لم تكن عليها أي معلوماتٍ عن المكونات أو الآثار الصحية. وكان الإجماع العام هو أنَّ الهدف النهائي -تفتيح البشرة- مطلوب للغاية إلى حد وجوب استخدام المنتجات بثقةٍ عمياء". تمتلك زارا بالفعل بشرةً فاتحة، وترزح تحت ضغطٍ للحفاظ عليها. وتصف أنظمة صارمة للعناية بالبشرة مكونة من الكريمات والعلاجات المنزلية، مثل فرك ليمون خام على البشرة ووضع أقنعةٍ من الكركم، بالإضافة إلى تجنب التعرض للشمس.
وتقول: "كنتُ أُقارَن ببنات أعمامي داكنات البشرة باعتباري (الأجمل)، وهو ما زودني بالمفاهيم الخاطئة عن الجمال حين دخلتُ العالم الأوسع. أتذكر عدم رغبتي في ارتداء الأبيض أو الألوان الفاتحة؛ لخوفي من أن أبدو أكثر سمرة بين أقراني".
أصبحت زارا بعد بلوغها، متعَبة من "السلوك الاستعماري، الذي يقول إنَّ "الأبيض هو الأفضل"، وعارضت عائلتها مشكِّكةً في صحة هذا التصرف بالنسبة لها ولأقربائها الأصغر سناً، لكنَّها تقول إنَّها تعترف بأنَّها خلال حياتها استفادت من "لون بشرتها الأفتح".
والتفريق في المعاملة يصل إلى القضاء
اكتشفت دراسة أميركية بارزة عام 2011 أنَّ النساء السود الأفتح في لون البشرة يتلقين أحكام سجنٍ أخف من النساء السود داكنات البشرة. وفي عام 2015، كشفت دراسة أخرى أنَّ مسؤولي مقابلات التوظيف البيض يرون أنَّ المتقدمين للوظائف من السود ذوي البشرة الفاتحة وذوي الأصول الإسبانية أكثر ذكاءً من المتقدمين داكني البشرة الذين لديهم المؤهلات نفسها.
واكتشفت سينثيا سيمز، من جامعة جنوب إلينوي، فجوةً بين الفرص الوظيفية المتاحة للنساء فاتحات البشرة وداكنات البشرة في الهند، بينما اكتشفت دراسةٌ من جامعة سياتل، أجرتها سونورا جا ومارا أديلمان، أنَّ فرص النساء الهنديات ذوات البشرة الداكنة في المواعدة عبر الإنترنت كانت "معدومة". وتكشف الدراسات باستمرار، أنَّ للبشرة الفاتحة مزايا في المنافسة بسوق العمل والزواج. والآن في العصر الرقمي، الوصول للمنتجات ومعرفة كيف يمكن كسب هذه الميزات أصبحا أسهل بكثير.
"الإنترنت أرض المعركة الكبرى"
ويقول رئيس قسم علم الجريمة والاجتماع في جامعة برمنغهام سيتي، ستيف غارنر، الذي تولى العام الماضي (2017) إجراء أول دراسة بريطانية سيكولوجية حول تفتيح البشرة، إنَّ "الإنترنت هي أرض المعركة الكبرى".
كانت عينة غارنر في البحث صغيرة؛ إذ كان يصعب إحضار مشاركين مستعدين للتحدث بطلاقة عن استخدامهم المنتجات، حتى في المدن المتعددة عرقياً مثل برمنغهام. ومع ذلك، فهناك بعض النتائج اللافتة للنظر. الأولى هي أنَّ السن التي يبدأ فيها المشاركون البحث في استخدام منتجات تفتيح البشرة، هي من 16 إلى 24 عاماً، والثانية هي دور الإنترنت.
ويقول غارنر: "للإنترنت دوران: المعلومات والصورة؛ الصورة هي دائماً الصورة النموذجية لما قبل وما بعد: الشخص الحزين داكن البشرة مقابل الشخص المبتسم فاتح البشرة". ويتابع: "عادةً كنتُ أرى مناقَشاتٍ بين أشخاصٍ يعيشون في المملكة المتحدة يقولون مثلاً: (عليك اقتناء النسخة الأميركية من منتجٍ ما؛ لأنَّ القواعد مختلفة قليلاً في الولايات المتحدة). يمكنك إيجاد الثغرات، عليك فقط متابعة منتدياتهم".
والمنتديات المغلقة أولى الساحات
تشكل هذه المنتديات جزءاً حيوياً من ثقافة تفتيح البشرة، مجتمعٌ للأشخاص الملتزمين تجاه تفتيح بشرتهم لا يكشف هوياتهم. بالنسبة للأكثر التزاماً بينهم، التفتيح هو نمط حياة، يتضمن تناول الطعام بنظامٍ معين، وتجنب التعرض للشمس، والالتزام بنظامٍ يومي دقيق للعناية بالبشرة، فضلاً عن أخذ الحبوب والحقن.
وتشكل المنتديات مساحةً للمستخدمين ليعرضوا تقدمهم، ويجدون حلاً لمشكلاتهم، ويشجع بعضهم بعضاً، بينما يمتلكون مساحةً آمنة لمناقشة ثقافة التفتيح. لديهم كذلك لغةٌ مشتركة -يُشار إلى درجة اللون بكود (مثل NC10) مأخوذ من ألوان مستحضرات تجميل ماك على سبيل المثال- ويتحدى المستخدمون بعضهم عادةً للوصول لدرجة بشرة معينة في موعدٍ محدد.
"أفسدت وجهي.. أرجو المساعدة"
أحد هذه المنتديات، وهو SkinCareTalk، يستضيف نحو 450 ألف منشور يناقش تفتيح البشرة، وبعضها مخصص لقراءة المشكلات وحلولها.
مكتوبٌ في أحد المنشورات: "دمرتُ بشرتي ولا أدري ماذا أفعل! لا يمكنني التوقف عن البكاء"، وآخر: "لديّ ندبات من البثور في وجهي؛ لذا قررتُ استخدام منتجات التفتيح… لكنَّها جعلت وجهي أكثر سمرة. أشعر بالتيه. أنا مكتئبة جداً!".
بينما كتب أحدهم في منشورٍ ثالث: "استخدمتُ [الهيدروكينون]، وأفسدتُ وجهي. أرجو المساعدة!".
ويطلب أحد المستخدمين نصيحةً بعد أن تسببت حبوب الجلوتاثيون في إصابته بطفحٍ جلدي يسمى الشري، بينما يبدأ آخر مناقشةً حول التعامل مع الأصدقاء والأقارب الذين "يشعرون بالغيرة" من لون بشرته.
وعلى يوتيوب، تحظى فيديوهات تفتيح البشرة بملايين المشاهدات بانتظام، وأكثرها شعبية هي تلك التي يصورها مدونو الفيديو الذين يُركزون على استخدام المنتجات ذات المكونات الطبيعية أو التي يبدو اسمها طبيعياً، سواءٌ المصنوعة في المنزل أو التي تصنعها شركات الأدوية.
خديعة الكلمات: تبييض.. تفتيح.. إشراق
ويُشكك غارنر فيما إذا كانت المنتجات التي يُزعَم أنَّها طبيعية يجب أن يُنظر إليها بشكلٍ مختلف، مُشيراً إلى أنَّ الأمر مُجرد مسألة لغة تسويقية. ويقول: "اعتاد الناس أن يقولوا (تبييض) الجلد، ولكنَّه مصطلحٌ أصبح يحمل الكثير من الدلالات الآن. بدلاً من ذلك، يستخدم الناس الكلمة المحايدة وهي (تفتيح)، والشائع على نحوٍ متزايد هو جعل البشرة (مُشرقةً)، وهي الكلمة التي روجت لها بكثافة الشركات الكبرى".
ويقول غارنر: "هناك وجود صغير جداً في مجال الصحة العامة على الإنترنت فيما يتعلق بتفتيح البشرة. لذلك، فإنَّ الناس الذين يتناقشون في المنتجات، ويبيعون المنتجات، يسيطرون على هذا الموضوع تماماً. وإذا أردت مواجهة هذه الأفكار باستخدام الإنترنت، فسيكون الأمر شاقاً".
"سمراء وجميلة" حملة للافتخار بالبشرة الداكنة
حركات مُضادة بدأت تظهر أخيراً. ففي فبراير/شباط 2016، استيقظت باكس جونز، الناشطة والمصورة في ولاية تكساس الأميركية، لتجد أنَّ الصور التي التقطتها لزميلاتها السريلانكيات التي تُظهر جمال البشرة الداكنة ومعها هاشتاغ "#UnfairandLovely" قد انتشرت انتشاراً واسعاً (يستخدم الهاشتاغ اسم Fair and Lovely، أحد كريمات التفتيح الرائجة في جنوب آسيا). انضم الناس وشاركوا صورهم لجمال البشرة الداكنة. واحتلت الحملة الأخبار العالمية. وتستدعي باكس الحدث، قائلةً: "ذات يوم استيقظت ووجدت آلاف الناس حرفياً يكتبون التغريدات عن الأمر. حتى الممثلة لوبيتا نيونغ كتبت عنه".
أنعشت جونز مؤخراً شعار #UnfairandLovely كجزءٍ من حملة على الإنترنت تسلط الضوء على مخاطر تفتيح البشرة، والتصدي للتمييز على أساس اللون.
تُراعي الحملة الفروق التاريخية والوطنية الدقيقة -النظام الطبقي، والعبودية أو الاستعمار- وهي حذرة في تنظيم المحتوى لتركز على مجتمعاتٍ محددة. وتقول: "أنا سوداء، وأصدقائي كانوا سريلانكيين، وهكذا كانت
لدينا تجربة مشتركة. لكنَّ تجارب الناس مع التمييز على أساس اللون تختلف كثيراً، ويصعب دفع شخص رُبِّيَ بالهند إلى فهم مشكلة التمييز على أساس اللون في جامايكا. الأمر تماماً كالمنتجات. ربما تكون الكيماويات متشابهة، لكنَّ الدعاية هي الجزء الخطر. نجحت حملتنا في جنوب آسيا؛ لأنَّهم يعرفون اسم العلامة التجارية. لكنَّ الأشخاص السود يستخدمون علاماتٍ بأسماءَ أخرى".
وبينما يستجيب المستخدمون لضغوطٍ حقيقية وملحّة في حيواتهم تدفعهم للمغامرة ببشرتهم، يتساءل غارنر: "لماذا نسختك صاحبة البشرة الأفتح هي دائماً أفضل نسخة من نفسك؟ هناك شيء يعزز هذا بوضوح على المستوى المجتمعي".
وشركات الإعلان متواطئةً في الممارسات المتحيزة
في دراسةٍ نُشرت بدورية Health Care Analysis، طرحت المحاضِرة في الأخلاقيات العالمية بجمعة برمنغهام، هيرجيت مارواي، تصوراً افتراضياً يكون فيه الآباء قادرين على تحديد لون بشرة أطفالهم الذين لم يولدوا بعدُ جعلها فاتحةً. هل سيكون أخلاقياً؟
تقول هيرجيت :"رأيي هو لا؛ لأنَّ هناك شيئاً ضاراً يتجاوز الفرد نفسه. رغم أنَّ الطفل قد يحصل على حياةٍ أفضل، سيرى الآخرون أنَّه يحصل على هذه الفوائد، وهذا يضغط عليهم ليغيروا أنفسهم ليتمكنوا من المنافسة. هذا يعزز ويؤكد التسلسل الهرمي الواسع المتعلق بالعِرق واللون".
وتزعم هيرغيت أنَّ الحجة نفسها تنطبق على أفعال الشركات العالمية، وتقول مفسِّرةً: "بالنظر إلى حجمها ومصادرها وتأثيرها، هناك معايير أخلاقية يجب أن تلتزم بها. وهذا يتضمن ألا تكون متواطئةً في الممارسات المتحيزة. فإعلانات منتجات التجميل لديها سمعة سيئة في تقديم النساء ذوات البشرة الداكنة كفاشلات مقارَنةً بالنساء ذوات البشرة الفاتحة.
كان التمييز على أساس اللون موجوداً قبل هذه الشركات، لكنَّهم يتاجرون به ويبيعون من خلاله. هذه الشركات قادرة على التغيير، وهذا شيء ربما نكون مسؤولين عن طلبه منهم".
وبالعودة إلى ما جرى في الشارع المسدود، كانت المداهمة ناجحة؛ إذ صادرت هيئة المعايير التجارية من 1500 إلى 2000 منتج، من بينها منتجات يدوية الصنع، ولا تحمل أي ملصقات، ومنتجات لم تُختبَر، وبذلك قضت المداهمة على واحدٍ من أكبر الباعة على الإنترنت في المملكة المتحدة.
وفي نهاية المبادرة التي استمرت عاماً في أنحاء البلاد، تعرفت السلطات على 45 تاجراً، وأصدرت 23 تحذيراً لتجار، وأدانت اثنين وغرّمت آخرين بعشرات الآلاف من الجنيهات وأرغمتهم على تعويض الضحايا. وهناك المزيد من المحاكمات القادمة، لكنَّ التجارة نفسها تستمر في الازدهار عالمياً.