"ابني ينظر في المرآة كثيراً"، شكوى يمكن سماعها من كثير من الأمهات، فهل نظر الطفل لنفسه في المرآة وملاعبته لصورته أمر خطير أم أنه شيء طبيعي؟
شاع خطأ بين الأمهات، توارثاً من الجدات، باتهام الناظر للمرآة كثيراً بالجنون.
كما شاعت نصائح عديدة للأمهات بتجنب وقوف أطفالهن أمام المرآة، خوفاً من الاختلال العقلي، الذي قد يكون من أسبابه انفعال الطفل بشكل كبير أمام صورته في المرآة، إلا أن للعلم أقوالاً أخرى.
فقد درس علماء علم النفس ملاحظات عن اهتمام الطفل بصورته في المرآة منذ الشهر السادس حتى بلوغه عاماً ونصف العام، وسجلوا استجابات الأطفال التي اتسمت جميعها بالتهليل والفرح والاستثارة، جراء رؤيتهم لانعاكسهم في المرآة، ولاحظوا أنهم يهوون النظر إليها مطولاً، آتين بحركات كثيرة أمامها، أو يلعبون معها.
في البداية، ينجذب الطفل إلى الصورة فقط، من ثم يحاول الإمساك بها أو اللعب معها، ثم يدرك أنها صورته هو، فيتهلَّل ويبتهج بشكل كبير لرؤية نفسه، فما السبب وراء ذلك، وما تصوّره عن نفسه قبل النظر في المرآة؟
من أنا؟ سؤال لا تجيبه سوى المرآة.. الانتقال للوجود المادي
الفيلسوف جاك لاكان كان من أوائل من نظروا لمرحلة المرآة لدى الطفل مستعيناً بالكثير من أفكار فرويد، يتحدث لاكان عن أن الطفل قبل رؤيته لنفسه في المرآة يدرك نفسه كأشياء منفصلة وأعضاء منفصلة لا يوجد بينها تناسق حركي، حيث لا يمكنه السيطرة على جسمه بالكامل، ويدرك نفسه ككتلة نفسية معنوية، أو مجموعة من التصورات، أي إدراك نفسه ككيان مجرد من مشاعر وتصورات، ويطلق عليها علماء علم النفس مصطلح "الجسم النفساني".
يتهلل الطفل كما ذكرنا سابقاً أمام المرآة لرؤيته انعكاسه، إذ يكون ذلك خطوة في طريق إدراكه الشعوري بانتقاله من الوجود المعنوي إلى الوجود المادي، أي أنه يدرك عن طريق المرآة شكله الموضوعي الخارجي، ويدرك نفسه كشخص مستقل له قسمات وملامح وجسم خاص به، يبدو ككل متكامل، على النقيض مما يشعر به بأن أعضاءه منفصلة ومستقلة عنه، لعدم تمكنه من التحكم الكامل بها، ويدرك نفسه أيضاً مستقلاً عن العالم الخارجي ومحيطه الاجتماعي، الذي كان يتماهى معه ويفني كيانه في وجودهما.
كيف ينظرون لي؟ حركاته التي تخيفك طبيعية
النظر في المرآة يجعل الطفل أيضاً يدرك وجوده وشكله في نظر الآخرين، ومن ثم يأتي بحركات مختلفة لير كيف يبدو، وهو سلوك يقوم به البالغون أيضاً، حيث إنها طبيعة بشرية أن يحتاج الإنسان أن يرى كيف يظهر في العالم الخارجي؟ أو كيف يراه الآخرون؟
فالجسد هو نقطة الالتقاء بين العالم السيكولوجي والعالم الفسيولوجي، إذ يقول سارتر "إن الموجود لذاته يكشف نفسه في المرآة موجوداً للآخر، فالصورة في المرآة تحدد التصور الجمعي عن الشخصية وتحدد حضورها".
ليس ذلك فقط وظيفة المرآة في إدراك الطفل بوجوده الخارجي واستقلاله، إنما تجعله يدرك معنى الغيرية، فهو يدرك وجود الأنا ووجود الآخر أو الغير، ويدرك ببداهة شديدة أن صورته في المرآة هي مجرد صورته وليست هو، ومن ثم يكون الآخر في المرآة أول آخر يدركه، وإن كان هذا الآخر يشبهه كثيراً، وهي خطوة مهمة في نمو وعي الطفل.
إعجاب بالذات: عليكِ حمايته من هذا المرض النفسي
من أهم العوامل التي تؤثر على الصحة النفسية للطفل هي تقبله لشكله وإعجابه به، لأن غير ذلك يمكن أن يؤدي إلى اضطراب صورة الجسم، وهو مرض نفسي يؤثر على سلوك ونفسية الطفل، ويستمر معه إلى مراحل متقدمة من العمر، كما أنه يؤثر سلباً على تقديره لذاته، ويعرقل وسيلة اتصال الطفل بالعالم، إذ إنه تم الاتفاق على أن الجسم هو بوابة عبور من الكيان النفسي إلى الكيان المادي، وهو عامل مهم في تحديد رؤيته لنفسه ورؤيته للآخرين.
ومن ثم، فعلى الأم عدم إبعاد طفلها عن المرآة، فهي تساعده في تكوين ذاته ووعيه بالآخر وإدراك قيمة نفسه وثقته، وليس ثمة جنون في ذلك، إنما هي خطوة مهمة في طريق صحة نفسية أفضل للطفل، الأمر الذي يضع على الوالدين واجب مساعدة الطفل في السن المناسبة، بداية من 6 أشهر في التعرف على نفسه أمام المرآة.