بوسط تعثري بالطريق وتمايلي مرة على الرصيف ومرة خارجه، ومرة لا هناك ولا هنا؛ بل بالذكريات المؤلمة، وأولها حصل قبل سنوات.
يوم أن كنا رفيقات أنا وهي وذهبنا لحفل ما، وبالسيارة كانت رفيقتي وصديقتها تتحدثان عن ثالثة كانت رفيقتهما، ويوم أن سافرت تحررت شيئاً فشيئاً، ثم خلعت حجابها.. كان الدعاء والحزن والاستنكار والألم سيد موقفهن، تذكرت ذلك وقت سماعي خبرها وقلت: "أيمكن بيوم أن أصنع شيئاً استنكرته فأصبح محط حزن ودعاء بعد أن كنت داعية بيوم من الأيام مثلها"، ثم نفثت في صدري ثلاثاً، وقلت: "العياذ بالله.. العياذ بالله"، كان ذلك وقت أن قابلت صديقة، وقبل أن تسألني عن حالي سارعت لسؤالها رغبة في التفريغ عن الحزن بقلبها:
ربا بتعرفي "فلانة.. صح؟!".
بابتسامة قلت: نعم رفيقتي كانت لفترة من الزمن، ثم صمت شقَّ على قلبي كثيراً؛ لينتهي بسمع أذنيّ ضرباً من الخيال، تمنيت وقتها لو لم أرَها أو صُممت فلم أسمع قولها:
"بس هيا يا ربا خلعت الحجاب لما سافرت!".
بحق رب السماء، والذهول يعتريني وهي تردد "نعم.. نعم".
ربما عدد من الفتيات حينما يسافرن يخلعن الحجاب فأتأثر وأدعو الله أن يردهن إليه رداً جميلاً، ولكن رفيقتي كانت تعتنق كثيراً من مبادئي.. تعلمون ما وقع ذلك عليَّ إذاً؟!
فسارت هي وأكملت سيري باتجاه آخر قاصدة عملي لتذرف عيني دمعة حب ودعاء يصيبها من السماء بإذنه فهو القادر.
هنا لست بصدد الحديث عن الحجاب وفرضيته، وما الدافع لخلعه، وما السبب فلكل علم أهله، وما نحن سوى غارقين في لجة العلوم نقتات منها شيئاً من حياة، ولكنني ألفت نظر كل قلب يمر على الكلمة فتنبه لشيء داخله.. ربما يستيقظ أو يكمل نومه، ولكن لا بد لي أن أقول:
يوم أن منحتني أمي الحجاب كنت رافضة له لصغر سني، فأرتديه ذهاباً للمدرسة وأرجع دونه وأدخل البيت أتمختر وأقول لها بمكر "قلت لك بديش إياه"، وبعض صديقاتي كمثلي، وهنا لم تكن أمي وباقي أمهات صديقاتي مخطئات، فهن يأمرننا بشيء عظيم، ولكنهن لم يملكن أسلوباً يقنعنا بالحجاب وجماليته، بل كان واجباً علينا تطبيقه بلا إدراك أو فهم لعظمته.
مرت الأيام وحفظت كتاب الله، فلم أتوقف عند "يدنين عليهن من جلابيبهن" قدر توقفي عند "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"، وأعلم أنها بنساء النبي نزلت، ولكني وقتها شعرت أنها لي، خصوصاً أنني فتاة أخاف من أذى البشر كثيراً، فحفَّتني هذه الآية وقررت بعدها أن ألزم الحجاب بحب وإقبال، حتى إنني ترددت بالنقاب غير آبهة بشيء، ولكن الله لم يقدره، ربما أجله أو جعل وجهي سمحاً، فأدعو لدينه بابتسامتي، وتكون كافية ليقبل الناس أفواجاً.. الغاية غير معلومة، ولكن الثابت أن الله أراد ذلك.
ما أود قوله إنني بعد هذا العمر وخروج فئة تهدم ثابتاً من الدين، فتنكر فرضية الحجاب، وتدعو الناس لذلك، وأخرى تقر بفرضيته، ولكنها ترفضه، واضعة آلاف الأسئلة العقلية للسبب في ارتدائه، فإني استذكرت السبب الذي أوقفني من البداية، ووضعته أمام عيني ورددت: "العفة"، مع بحثي واطلاعي الدائم وقراءتي لما يكتبونه ويرددنه علني يوماً أكتب شيئاً ينفعني وينفعهن وينقذنا.
وهنا لمن يبحثون بالأدلة العقلية ويغوصون بالأسئلة والإجابات والاستدلالات التي يصبونها حول فرضية الحجاب كغطاء للرأس أسائلهم: "مَن مِن النساء خلعت الحجاب وأبقت ستر جسدها كاملاً بدون أن يظهر شيء منه؟!"، آتوني بواحدة منهن وسأسعد بالحديث معها.
وهنا أعود لقولي هو عفة وذاك يكفي.. أن ترتديه الفتاة عند البلوغ فتمتلئ حياء إن مرت على الرجال وتشعر أنها ازدانت كجوهرة رصعت بالحمرة التي تملأ وجهها، فأصبحت محط إعجاب للآخرين، فالطفلة صارت "صبية" تشعر بالصون والحفظ الذي لحقها إثر ارتدائها للحجاب من أعين الحمقى والطامعين الذين يصورون المرأة جسداً فقط فيرونه كلما رأوها.
ويرضيني أن أنبهكن لتبحثن عن سبيل للعشق شعرتن به عند ارتدائكن للحجاب فتكتبنه وتنشرنه، وإني هنا بتدويناتي لا أضع حلولاً أو إجابات أو أغوص بالشرع فأدلي بآيات وتفصيلات، يكفيني أن أستفز داخلكن فتبحثن برغبة شديدة عن دينكن وعظمته وحقيقة فرائضه.
وهنا تبعاً لسؤالي المعتاد لنفسي: ما الذي يصيب الفتاة العربية وسط خروجها من بيئتها لبيئة أخرى يجعلها تخلع أو "تنزع" جزءاً كبيراً من سلوكياتها وأفعالها وما نعتقد أنه من مبادئها؟!
لذا يا أمي وأبي.. عليكما ألا تجبرا أبناءكما على شيء..سيكبرون يوماً وستشيخان أنتما.. وقتها سيصنعون شيئاً يفت بعضدكما فيمتلئ قلباكما حسرةً وألماً.. واسمحا لهم أن يغوصوا في بحر من العلم والبحث والاطلاع مروراً بالشك داخلهم، وصولاً لليقين؛ ليترسخ الإيمان حقاً في قلوبهم، ويشعروا بجماليته، فلا ينزعون شيئاً منه مهما تغيرت الأزمان والأماكن.
وإني أغبط غير المسلمين على إحساسهم الرقيق عند دخولهم للإسلام بكل آية، فتتحرك أفئدتهم، ويكون البكاء ندماً على فعلهم السابق فور سماعهم آيات الله، ويستذكرون وقت أن عاشوا مرحلة الضلال والشك والغفلة، فيقبلون على الإسلام مطبقين لما فيه من أحكام وفرضيات بحب ورضا وامتثال، ويسعون لحفظه أكثر منا..وكم ذاك موجع!
ويكفينا أننا بالفكر والعقل ندرك اليقينيات الكونية ونصون الإيمان داخلنا.. فبه نحفظ الإيمان فلا يهدم أبداً.
وإرشاد الله عظيم لنصل للحق واليقين.. "إن في ذلك لآيات للمتوسمين"، ولعلها كافية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.