علمت كيم جي يون أنها بحاجة لجراحة تجميلية حين كانت بسن السابعة. وظلَّت على مدار السنوات الـ13 التالية تُخرِّب صورها، إلى أن دفع والداها ثمن إجراء جراحة فك مزدوجة، وهي عملية تتطلَّب كسر الفك من أجل تقويمه.
حسب تقرير صحيفة The New York Times الأميركية، بدأت كيم بعد ذلك تكريس 200 دولار شهرياً وساعتين يومياً، وفق حساباتها، للاهتمام بمظهرها. فقصَّرت شعرها، ثُمَّ سحقت أدوات ومستحضرات التجميل لديها.
تُعَد كيم (22 عاماً)، الآن، عضوة ضمن مجموعة من النساء في كوريا الجنوبية يتمرَّدن على معايير الجمال القاسية بمجتمعهن، في حملة يُطلقن عليها "اهربي من المَشدّ".
تتحدى هؤلاء النساء، اللاتي أُلهِمن جزئياً من حركة "#MeToo" (أنا أيضاً) العالمية التي زلزلت السياسة والمجتمع في الثقافة الأبوية العميقة بكوريا الجنوبية، سلوكيات وتوجهات مقبولة منذ زمنٍ بعيد تتعلَّق بالجراحات التجميلية ومستحضرات التجميل، في واحدةٍ من أكثر عواصم العالم هوساً بالجمال.
كانت كيم تصرف 200 دولار شهرياً وساعتين يومياً للاهتمام بمظهرها لكنها قررت ترك كل ذلك
قالت كيم: "إنَّ بُغض النساء أكثر تطرُّفاً في كوريا الجنوبية، وصناعة الجمال جعلت الأمر أسوأ".
ويُعَد الجمال موضوعاً جللاً في كوريا الجنوبية. فتتمتع البلاد بأكبر معدل في العالم للجراحات التجميلية بالنسبة للفرد، والمعدل في تزايد. وأصبحت وِجهة لسياحة "شد الوجه". ووفقاً لشركة Mintel لأبحاث السوق، ولَّد سوق الجَمال –مستحضرات التجميل ومنتجات العناية بالبشرة مثل أقنعة الوجه- مبيعات بقيمة 13 مليار دولار العام الماضي (2017)، ما يجعل منه واحداً من أكبر 10 أسواق للجَمال في العالم.
في حين يُشكِّل الرجال جزءاً متزايداً من هذه السوق، فإنَّ الضغط لتحقيق الجَمال يكون مُوجَّهاً في المعظم إلى النساء. وتُتَّخذ نجمات موسيقى البوب الكوري، اللاتي يخضعن في كثير من الأحيان إلى جراحات تجميلية موسعة، معياراً للجمال. ويُقدِّم مشاهير اليوتيوب، ممن لديهم ملايين المتابعين، مقاطع فيديو تعليمية تفصيلية عن كيفية استخدام مستحضرات التجميل. وتُمطَر النساء بالإعلانات المرتبطة بالجمال في الحافلات، وقطارات الأنفاق، وعلى التلفاز.
يقول أحد الإعلانات في قطار أنفاق سول: "أولدتِ جميلة؟ هذه كذبة سمينة".
قالت كيم: "نمُرُّ بـ12 خطوة فقط كي نضع على وجهنا مستحضرات الأساس قبل أن نضع حتى مستحضرات التجميل. وهذا يحدد المشكلة بصورة جوهرية".
لكن النساء الآن يتصدّين لهذا. فهذا الصيف، تجمَّع عشرات الآلاف، للاحتجاج على الاعتداءات الجنسية، وانتشار كاميرات التجسس التي تلتقط مقاطع فيديو تلصُّصية للنساء، والقواعد الأكثر صرامة التي يواجهنها في مجالات المجتمع الأخرى، من الجَمال وحتى القانون.
تشعل التفاوتات السياسية والاقتصادية فتيل الغضب. ففجوة الأجور في كوريا الجنوبية هي الأوسع بين الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وتشغل السيدات سُدس مقاعد الجمعية الوطنية فقط، وعُشر المناصب الإدارية في الشركات.
قالت يونكيم جي يونغ، الأستاذة المساعدة في الفلسفة النسوية بمعهد الجسد والثقافة بجامعة كونكوك: "إنَّ شدة الحركة النسوية في كوريا الجنوبية أقوى من البلدان الأخرى، لأنَّ النساء بالفعل لا يؤدين دوراً في القيادة السياسية والاقتصادية".
وفي تلك البيئة، وجدت حركة "اهربي من المَشدّ" جمهوراً لها.
"مستحضرات التجميل تمنحهن الشجاعة للذهاب إلى المدرسة"
باي يون يونغ، الشهيرة بلينا باي، كانت من نجمات موقع يوتيوب اللاتي يقدّمن فيديوهات تدريبية لوسائل التجميل. وبعد سماعها عن الحركة المعادية للمشدَّات في وقتٍ سابقٍ من هذا العام (2018)، أخذت لينا باي، ذات الـ21 عاماً، نظرةً من كثبٍ إلى التعليقات على قناتها بموقع يوتيوب. وكان كثيرٌ منها من فتياتٍ صغيرات يقلن إنَّ مستحضرات التجميل تمنحهن الشجاعة للذهاب إلى المدرسة.
وعلَّقت لينا على هذا، قائلةً: "أدركتُ أنَّ ثمة مشكلة. فأردتُ عمل نوعٍ جديدٍ من الفيديوهات كي أخبرهن بألا بأس بعدم وضع مستحضرات التجميل".
في يونيو/حزيران 2018، رفعت لينا فيديو تُظهِر فيه نفسها وهي تمر بالعملية المضنية لوضع الكريمات، وكريم الأساس، وكحل العين، والرموش الاصطناعية. وجاءتها سلسلةٌ من الرسائل المصطنعة مثل الرسائل التي وجدتها آخر مرةٍ حين تفقَّدت التعليقات. قالت إحداها: "عيناك غير مستويتين". وقالت أخرى: "لو كنتُ مكانك لقتلتُ نفسي".
ثم تزيل مستحضرات التجميل بأكملها، وتقول للمشاهِدات: "لا تنشغلي إلى هذا الحد بنظرة الآخرين إليك. أنتِ مميزة وجميلة كما أنتِ".
شُوهد هذا الفيديو 5.5 مليون مرة. وازداد عدد متابعي لينا باي من 20 ألف إلى 147 ألف. وطلب منها أحد الناشرين تأليف كتاب. ومنذ ذلك الحين، قصَّت شعرها، وامتنعت عن وضع مستحضرات التجميل، مُوفِّرةً نحو 500 دولار شهرياً. والآن تركز فيديوهاتها على الطهو ومشاركة الأفكار.
من الأمثلة الأخرى، تشا جي وون، وهي صانعة محتوى فيديو في شركة لتجديد المناطق الحضرية انضمت إلى هذه الحركة العام الجاري (2018)، وأنشأت قناةً خاصةً بها على يوتيوب، ولديها الآن 30 ألف متابع. فيما مضى، كانت تشا، صاحبة الـ22 عاماً، تظن أنَّ إنفاق ما يصل إلى 700 دولار شهرياً على مستحضرات التجميل لم يكن يكفي. لكن الآن حوَّلت مستحضرات تجميلها إلى مواد رخوة تشبه الصلصال كي تلعب بها.
وتحدثت تشا عن هوايتها، قائلةً: "إنَّها أشبه بالألعاب، أو أقلام التلوين". وتابعت بأنَّها كانت تشعر كما لو كانت مواطنة من الدرجة الثانية، لكن الآن وقد توقفت عن استخدام مستحضرات التجميل، بات "الناس يصغون إليَّ حين أتكلم".
لكنَّ الحركة أثارت رد فعل لاذعاً.
تقول لينا باي، وكيم جي يون، وتشا جي وون، صاحبات الشعر القصير المُميِّز لهذه الحركة، إنَّهن يتعرَّضن للإيذاء اللفظي وتهديدات القتل، إذ سمعت كيم من اثنين من رؤسائها في العمل أنَّها ليست ذات مظهرٍ أنثويٍّ بما يكفي. وتتحدث النسويات عن "جهر" أقرانهن بحقيقة إيمانهن بمساواة الجنسين على الملأ، لأنَّ الكثيرات يفضِّلنَ أن يكتمن الأمر سراً.
من ناحيتها، صرَّحت سيو سول، ذات الـ26 عاماً، والتي تقدِّم برنامجاً حوارياً على موقع يوتيوب عن النسوية يحمل اسم "Because There Is Too Much to Say. – لأن هناك الكثير لنقوله"، قائلةً: "هناك عنفٌ شديدٌ ضد أولئك الذين يحيدون عن التوجه العام في كوريا الجنوبية مقارنةً بالدول الأخرى".
نظارة بدلا من الرموش الصناعية
جرَّبت ييم هيون جو هذا الانتقاد. إذ قررت مذيعة نشرات الأخبار صاحبة الـ33 عاماً أن ترتدي نظارتها أثناء تقديم نشرة الأخبار الصباحية يوم 12 أبريل/نيسان على القناة التلفزيونية التابعة لمؤسسة منهوا الإذاعية Munhwa Broadcasting Corpration، وهي مؤسسة إعلامية وطنية. ويرجع هذا إلى أنَّ رموشها الصناعية كانت تُجهِدُ عينيها لدرجة أنَّها كانت تستهلك زجاجةً من الدموع الصناعية كل يوم.
اجتاح الحدث الإنترنت. وقالت ييم: "لم أتوقع أن يصير الأمر قصة تُتداول كالأخبار".
تلقَّت ييم توبيخاً من مُعِدِّيها. وبعث المشاهدون شكاوى. لكنَّ النساء كُنَّ يُقبِلن عليها في الشوارع لتوجيه الشكر لها. الآن ترتدي ييم نظارتها من حين إلى آخر، وهو تصرُّفٌ تقول إنَّ الغرض منه أن تبعث للمشاهدين رسالةً بأن يحكموا عليها من خلال مؤهلاتها وليس مظهرها. لكنَّها لا تريد أن تُعَرِّف نفسها بكونها جزءاً من أية حركة.
إذ أوضحت ييم: "لو أمكنني التصرف بحُرِّية، لقلَّلتُ من استخدامي لمستحضرات التجميل".
وأضافت: "لكنَّني حائرة بين عقلي وقلبي، وهذا في حد ذاته مشكلة، لكن ذلك هو الواقع الذي تفرضه عليَّ وظيفتي".
ويعتز كثيرٌ من السيدات المشاركات في الحركة المعادية للمشدَّات بأفعالهن، قائلاتٍ إنَّها قد أحدثت تأثيراً صغيراً في صناعة مستحضرات التجميل. فعلى سبيل المثال، ظهرت عارضة قصيرة الشعر وأخرى يبدو على وجهها النمش في أحد الإعلانات المذاعة حديثاً لشركة Missha لمستحضرات التجميل. ويقول الإعلان: "عبِّري عن نفسكِ، أفصحي عن عيوبكِ واتّبعي معاييرك الخاصة لا معايير الآخرين". مع ذلك، أشرن إلى أنَّ المرأتين في الإعلان ملتزمتان بمعايير الجمال الكورية، وكلتاهما تستخدم مستحضرات تجميل.
وتعليقاً على الأمر، قالت كيم هونغ تاي، المتحدثة باسم شركة Able C&C، المالكة لشركة Missha، إنَّ الهدف من الإعلان كان الإيحاء بأنَّه "لا توجد معايير مُسبَقة للمظاهر الجسدية".
ما زالت الضغوط قويةً على النساء لاستخدام مستحضرات التجميل والحصول على أوجهٍ صغيرةٍ تشبه القلوب. تلعب إيم سو هيانغ دور بطولةٍ في مسلسل درامي كوري باسم "My ID Is Gangnam Beauty"، الذي يحكي قصة امرأة شابة تخضع لجراحة تجميل وتعاني مشكلات مع شكلها. ويشير عنوان المسلسل إلى حي كانغنام الراقي في العاصمة الكورية سول، حيث تملأ عيادات التجميل الشوارع.
وصرَّحت إيم في أثناء مقابلةٍ أُجرِيت بأحد صالونات الشعر في حي كانغنام: "لا يمكنني القول إنَّني لا أعبأ بالناس الذين يعطونني انتباههم بسبب طبيعة وظيفتي. انظر إليَّ، شعري مُصفَّف، وعلى وجهي مستحضرات تجميل، وأظافري مقلَّمة ومطلية، وأرتدي ملابس جميلة".
وابتسمت، ثم أضافت: "لا يمكن أن أكون متحررة (من هذا)".