كشفت الدراسات في جميع أنحاء العالم مراراً وتكراراً عن وجود علاقة بين التعرض للصدمات والأحداث المؤلمة في مرحلة الطفولة، والتطور اللاحق للألم المزمن.
ويُقصد بالألم المزمن هنا شعوراً غير مفهوم الأسباب والأعراض عند الشخص المصاب بالوجع، والذي عادة ما لا تتمكن الكشوف الطبية المعتادة من معرفة أسبابه الأصلية أو علاجه بشكل جذري.
ويُعد الألم المزمن من الحالات التي لا يزال معدل انتشارها المرتفع يمثل تحدياً كبيراً للصحة العامة في جميع أنحاء العالم، حيث يبلغ حوالي 1 من كل 5 بالغين عن أعراض ألم مزمن كبيرة واحد أو أكثر من الأعراض شديدة التأثير التي تؤثر سلباً على الأداء الوظيفي والتفاعل الاجتماعي والإنتاجية وجودة حياة المصاب بشكل عام.
تأثير تجارب الطفولة الصادمة على الجسم
تضيف النتائج التي توصلت إليها الأبحاث العلمية المتخصصة أن ضغوط الحياة المبكرة مثل انفصال الأبوين، والصدمات الطبية، والإيذاء الجسدي والعاطفي، والتعرض للإهمال، والمرض العقلي أو الإدمان عند الوالدين أو أحد مقدمي الرعاية للطفل، أو التعرض للعنف الأسري، جميعها من العوامل التي تسبب تأثيراً جذرياً طويل المدى على جسم الشخص، وكذلك تساهم في تغيير المسارات العصبية.
وعندما تقترن تلك التداعيات المبكرة والقاسية على الجسم، بنظام غذائي غني بالدهون والسكريات، يتضح أن البالغين الذين عاشوا خلال هذه التجارب لديهم حساسية أعلى للألم، وزيادة في معدلات معاناتهم من القلق الجسدي وتغيرات في المستوى الهيكلي والوظيفي للدماغ.
حتى إن الوجع المزمن غالباً ما يحدث أثناء مرحلة الطفولة، إذ يبلغ عنه واحد من كل خمسة أطفال أو مراهقين، وهو أكثر انتشاراً بين الإناث مقارنة بالذكور.
في الوقت نفسه، يزيد معدل المعاناة من الألم المزمن في مرحلة الطفولة والمراهقة من خطر المعاناة من الألم المزمن والنتائج الصحية السيئة بما في ذلك اضطرابات الصحة العقلية في مرحلة البلوغ.
إضافة إلى ذلك، فإن الأطفال والمراهقين الذين يعاني آباؤهم من آلام مزمنة، يكونون أكثر عرضة للإصابة بالألم المزمن والأعراض المرتبطة المشابهة لاضطراب ما بعد الصدمة.
عواقب الإجهاد في مرحلة الطفولة
تأثير الأحداث السلبية في حياة صغار السن يتسبب في تغييرات كبيرة في الصحة العقلية والجسدية للطفل. وتتبع هذه الاضطرابات الطفل حتى مرحلة البلوغ وتؤدي إلى مضاعفات صحية ومشاكل في الصحة العقلية، وأخيراً زيادة الإحساس بالألم المزمن.
فيما يلي خمسة مجالات متعلقة بالصحة العاطفية والجسدية تتأثر بضغوط الطفولة المزمنة والتي يمكن أن تؤثر على تجربة الشخص للألم لاحقاً:
1- ضعف الجهاز المناعي
بدلاً من حمايتنا، ينقلب الجهاز المناعي المتضرر ضد الجسم، مما يسبب الالتهاب والألم وتعطيل العمليات الجسدية الطبيعية. ومقابل كل نقطة زيادة على مقياس تجارب الطفولة السلبية، يكون الشخص أكثر عرضة بنسبة 20% لدخول المستشفى بسبب اضطرابات المناعة الذاتية.
ويترجم خلل الجهاز المناعي، مع التهاب العضلات والأوتار والمفاصل وأنسجة الجسم الأخرى، إلى المزيد من الألم.
2- النوم المتقطع
تؤدي درجة الصدمات في الطفولة إلى مضاعفة خطر الإصابة بمشاكل النوم؛ وتساهم مشاهدة العنف المنزلي و/أو التعرض للإيذاء الجسدي أو الجنسي، بشكل كبير في تطوير اضطرابات النوم لاحقاً.
ويتضح أن أولئك الذين يعانون من الألم غالباً ما يعانون من مشاكل النوم بالتبعية. ويفترض الكثيرون أن نومهم المتقطع يرجع فقط إلى الألم، في حين أن صعوبة قدرة الدماغ على تنظيم النوم قد تكون مرتبطة بتاريخ من الإجهاد في مرحلة الطفولة لا العكس.
3- ارتفاع معدل مشاكل الصحة العقلية
عندما يعاني الشخص من عدد من الصدمات في طفولته المبكر، يكون لديه فرصة أكبر بكثير لتطوير مشكلة تتعلق بالصحة العقلية، وخاصة المعاناة من القلق والاكتئاب.
ومع تزايد الضائقة العاطفية الناجمة عن القلق والاكتئاب، يزداد أيضاً إدراك الألم وحساسية الجسم له بشكل عام.
4- مشاكل التركيز والانتباه
يؤثر التوتر المزمن سلباً على هياكل الدماغ التي تنظم الانتباه والتركيز والذاكرة. وبالنسبة للأطفال الذين تعرضوا لصدمات الطفولة، فإن احتمال حدوث مشاكل في الانتباه والتركيز وفرط النشاط لديهم كان 4 أضعاف.
ويُعد التركيز والانتباه عمليتين عقليتين غالباً ما يعاني منهما مرضى الفيبروميالجيا من مشاكل، وهي متلازمة شائعة ومزمنة، تُسبب الألم في جميع أنحاء الجسم، والاضطراب العقلي المصحوب بالإرهاق والنوم، ومشاكل الذاكرة والمزاج.
ومع إبلاغ 60% أو أكثر من هؤلاء المرضى عن تاريخ شخصي من الاعتداء الجسدي أو الجنسي، فإن ذلك يدعم إمكانية مساهمة تجارب الطفولة المبكرة هذه في حدوث تغيرات ضارة في الدماغ.
5- فرط التأهب العصبي واضطرابات القلق الحادة
يؤدي الإجهاد المزمن والصدمات أثناء الطفولة إلى تعطيل عمل رد فعل "المواجهة أو الهرب" (Fight or Flight)، مما يضعف الروابط بين قشرة الفص الجبهي واللوزة الدماغية.
ويساعد هذا الخلل في التنظيم على تفسير سبب إدراك الشخص الذي لديه تاريخ من الصدمات في مرحلة الطفولة في كثير من الأحيان للتغيرات غير المجهدة (والمجهدة إلى حد ما) في حياته كتهديد حاد.
ويُساهم سوء تفسير الأحداث المحايدة على أنها تهديد إلى إثارة جسدية متزايدة، وهو ما يُعرف أيضاً باسم اضطراب القلق الحاد.
والأسوأ من ذلك هو أن الدماغ بدوره ينتهج نفس الأسلوب في الوظائف الفسيولوجية، وبالتالي يصبح شديد التفاعل ويستجيب للاهتزاز واللمس وتلف الأنسجة والحرارة والالتهاب والضغط عن طريق إنتاج كميات بالغة من الألم، بشكل لا يتناسب مع التهديد الفعلي للجسم.
خطوة للتعافي ونظرة للأمام
عند التعامل مع تأثير التوتر والألم المزمن في مرحلة الطفولة، يمكن لليقظة الذهنية والتأمل أن يلعبا دوراً مهماً في عملية التهدئة وإعادة ضبط الجسم من خلال تقوية الروابط بين جميع أنحاء الدماغ، وتحفيز نمو الخلايا العصبية، وتهدئة اللوزة الدماغية، أو المركز العاطفي والتفاعلي للدماغ.
ويُعد تعلم التخلص من الأفكار والمشاعر غير المرغوب فيها، والبقاء حاضراً، والتحرك نحو ما هو مهم من خلال الاسترخاء واعتناق أسلوب حياة صحي بدنياً ونفسياً، من الأساليب المفيدة لإدارة الضيق، وتخفيف حدة ووتيرة الألم بالتبعية.
وختاماً، من الضروري أن يتذكر الشخص أن الضرر الناجم عن الماضي ليس لعنة دائمة، بل هناك الكثير من الفرص للتعافي والمضي قدماً. والأهم من ذلك، الشخص دائماً لديه فرصة خلق تجارب جديدة تعيد له توازنه وصحته العامة بشكل مُرضٍ، حتى وإن كانت الرحلة شاقة أحياناً.
يؤكد فريق “عربي بوست” على أهمّية مراجعة الطبيب أو المستشفى فيما يتعلّق بتناول أي عقاقير أو أدوية أو مُكمِّلات غذائية أو فيتامينات، أو بعض أنواع الأطعمة في حال كنت تعاني من حالة صحية خاصة.
إذ إنّ الاختلافات الجسدية والصحيّة بين الأشخاص عامل حاسم في التشخيصات الطبية، كما أن الدراسات المُعتَمَدَة في التقارير تركز أحياناً على جوانب معينة من الأعراض وطرق علاجها، دون الأخذ في الاعتبار بقية الجوانب والعوامل، وقد أُجريت الدراسات في ظروف معملية صارمة لا تراعي أحياناً كثيراً من الاختلافات، لذلك ننصح دائماً بالمراجعة الدقيقة من الطبيب المختص.