"خذ نفساً" أو "التقط أنفاسك".. على مدى أجيال، تم تناقل نصيحة التقاط أنفاس طويلة ببطء للتخلص من القلق والتوتر، بل يوجد تقليد عريق وقديم جداً ضمن طقوس ممارسة التأمل يستخدم عملية التحكم في التنفس لاستحضار الهدوء والطمأنينة، وحتى النوم.
وبالنسبة للكثيرين منا يعني الاسترخاء في نهاية يوم مرهق الجلوس أمام التلفزيون، لكنه عملياً لا يقلل آثار التوتر الضارة. لمكافحة الإجهاد بشكل فعال، نحتاج إلى تنشيط استجابة الاسترخاء الطبيعية للجسم.
تم اكتشاف تقنية "استجابة الاسترخاء" وصياغتها بواسطة الدكتور هربرت بنسون، حسب ما نشر موقع جمعية The American Association of Stress.
واستجابة الاسترخاء هي حالة جسدية من الراحة العميقة التي تغير الاستجابات الجسدية والعاطفية للتوتر (على سبيل المثال، انخفاض في معدل ضربات القلب وضغط الدم ومعدل التنفس وتوتر العضلات).
عند إثارة استجابة الاسترخاء:
- • ينخفض التمثيل الغذائي.
- • تتباطأ دقات القلب وتسترخي العضلات.
- • يصبح النفس أبطأ.
- • ينخفض ضغط الدم.
- • ترتفع مستويات أكسيد النيتريك.
- فما هي تقنية الاسترخاء؟
هي بكل بساطة التنفس، لكن المفتاح هو بالطبع، التركيز على التنفس.
استجابة الاسترخاء لا تتمثل في الاستلقاء على الأريكة أو النوم، ولكنها عملية نشطة عقلياً تترك الجسم مسترخياً وهادئاً وفي حالة تركيز.
التنفس البطني لمدة 20 إلى 30 دقيقة كل يوم سيقلل من القلق ويقلل من التوتر. يزيد التنفس العميق من إمداد الدماغ بالأوكسجين ويحفِّز الجهاز العصبي السمبتاوي، مما يعزز حالة الهدوء. تساعد تقنيات التنفس على الشعور بالتواصل مع الجسد، كما تعيد توجيه الوعي بعيداً عن المخاوف وتهدئ العقل.
كيف يساعد التنفس العميق على استعادة الهدوء؟
علماء من جامعة ستانفورد كشفوا النقاب لأول مرة عن السبب وراء الهدوء الذي يعقب التقاط أنفاس عميقة. كذلك يؤكد البحث- الذي أُجري على مجموعة من الخلايا العصبية الكامنة داخل أدمغة الفئران- على مدى تعقيد وانتشار الروابط داخل الجسم بين التنفس والتفكير والتصرف والشعور.
يعد التنفس إحدى العمليات الأكثر مرونةً وضروريةً من بين العمليات التي يؤديها الجسم. إذ إن التنفس يحدث باستمرار وبشكل إيقاعي، مثل نبض القلب بصورة ثابتة.
لكن بينما لا نستطيع تغيير إيقاع نبض القلب بإرادتنا، نستطيع تعديل الطريقة التي نتنفس بها: وفي بعض الحالات بطريقة واعية مثلما نفعل عندما نحبس أنفاسنا، أو بقليل من التحكم مثلما يحدث عند التنهّد أو اللهاث أو التثاؤب.
غير أن الطريقة التي ينظم بها الجسم والعقل عملية التنفس والعكس كذلك على المستوى الخلوي، ما زالت العملية غامضة بدرجة كبيرة.
منذ أكثر من 25 عاماً، اكتشف علماء من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس لأول مرةٍ مجموعة صغيرة تتألف من 3000 خلية عصبية مترابطة داخل الجذوع الدماغية للكائنات الحية، ومن بينها البشر، مهمتها التحكم في غالبية جوانب التنفس. وأطلق العلماء على هذه الخلايا العصبية اسم "ناظمة التنفس".
وفي السنوات التي تلت ذلك لم يتحقق إلا القليل من التقدم على صعيد الوصول إلى فهم دقيق للطريقة التي تعمل بها هذه الخلايا.
لكن مجموعة من العلماء من جامعة ستانفورد وجامعات أخرى، بما في ذلك بعض الباحثين من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، بدأوا مؤخراً في استخدام تقنيات جينية جديدة لدراسة خلايا عصبية منفردة في الناظمة التنفسية، حسب ما نشرت صحيفة The New York Times.
ومن خلال التتبع المجهري للبروتينات المختلفة التي أنتجتها الجينات في كل خلية، استطاع العلماء تصنيف الخلايا العصبية إلى "أنواع".
وفي نهاية المطاف حددوا حوالي 65 نوعاً من الخلايا العصبية في الناظمة، ويحتمل أن يكون لكل منها مسؤولية متفردة في تنظيم جانب ما من جوانب التنفس.
أكد العلماء تلك الفكرة في دراسة بارزة نُشرت عام 2021 في مجلة Nature، وفيها ربّوا فئراناً لديها نوع واحد من خلية ناظمة التنفس يمكن تعطيلها. وعندما حقن العلماء الفئران بفيروس قتل هذه الخلايا، اكتشفوا أن الفئران توقفت عن التنهد. إذ إن الفئران، مثل البشر، تتنهد عادة كل بضع دقائق، دون انتباه. وبدون الإرشادات التي تصدرها هذه الخلايا، توقفت عملية التنهيد.
صحيحٌ أنها دراسة مذهلة بمعنى الكلمة، لكنها أثارت تساؤلات جديدة حول قدرات الخلايا العصبية الأخرى في الناظمة.
في الدراسة الأحدث، التي نُشِرت لاحقاً في مجلة Science، عطَّل الباحثون بحرصٍ نوعاً آخر من الخلايا العصبية المرتبطة بالتنفس لدى الفئران. وما ظهر بعد ذلك في بداية الأمر أن الفئران لم تتغير؛ فكانت تتنهد وتتثاءب وتفعل كل العمليات الأخرى المرتبطة بالتنفس مثل السابق.
ولكن عندما وُضعت الفئران في أقفاص غير مألوفة، وهو ما يثير عادة لدى الفئران حالة استكشاف مذعورة والكثير من الشم بطريقة عصبية- وهو من نوع من التنفس السريع- فإن الحيوانات بدلاً من ذلك جلست بهدوء ونظفت أنفسها.
قال الدكتور مارك كراسنو، أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ستانفورد الذي أشرف على البحث: "لقد كان ذلك بالنسبة للفئران، هدوءاً ملحوظاً".
من أجل تحقيق فهم أفضل لسبب ذلك، فحص الباحثون في الخطوة التالية أنسجة الدماغ لدى الفئران لتحديد ما إذا كانت الخلايا العصبية المعطلة ربما تكون مرتبطة بأجزاء أخرى من الدماغ، وكيف يكون ذلك.
واتضح أن الخلايا العصبية محل البحث أظهرت روابط حيوية مباشرة مع جزء من الدماغ يُعرف بأنه مرتبط باليقظة والإثارة. ترسل هذه المنطقة إشارات إلى أجزاء عديدة أخرى من الدماغ، وهذه الأجزاء مجتمعةً ترشدنا إلى اليقظة والانتباه، وأحياناً تجعلنا في حالة قلقٍ أو هياج.
في الفئران الناضجة، ظلت هذه المنطقة الدماغية هادئة.
بدوره، قال كيفين ياكل، الذي قاد الدراسة عندما كان باحث دراسات عليا في جامعة ستانفورد: "نعتقد أن ما كان يحدث هو أن الخلايا العصبية المعطلة تستكشف في المعتاد النشاط داخل الناظمة التي تنظم عملية التنفس السريع والشم".
ولذا، فإن الخلايا العصبية المعطلة ربما كانت تنبه الدماغ لحدوث شيء مع الفأر قد يكون مقلقاً، نظراً إلى أنه كان يؤدي عملية الشم هذه، ويجب على الدماغ بدوره أن يبدأ في حشد آلات القلق والهلع. ولذا فإن بضع حركات من عملية الشم الاستكشافية يمكن أن ينتج عنها حالة من التوتر، وفي حلقة من ردات الفعل السريعة، يمكن أن تجعل الحيوان يشم أكثر وأكثر ويتزايد توتره.
أو أنه بدون هذه الآلية، سوف يبقى هادئاً مطمئناً كفأرٍ يمارس التأمل.
وتوصل العلماء إلى أن الفرضية المترتبة على هذا العمل تقول إن الحصول على أنفاس عميقة تكون مهدئة لأنها لا تنشط الخلايا العصبية التي تتواصل مع مركز الإثارة واليقظة في الدماغ.
ولكن لا يزال غير معروف ما إذا كان التنفس يملك مجموعة منفصلة خاصة به من الخلايا العصبية التنظيمية، وكذلك لا يزال غير معروف ما إذا كانت هذه الخلايا العصبية تتحدث إلى مناطق الدماغ المشتركة في عملية تهدئة وطمأنة الجسم، برغم أن العلماء يخططون لمواصلة دراسة نشاط كل من هذه الخلايا العصبية الفرعية داخل الناظمة.