نحن البشر نميل إلى إعطاء أهمية أكبر للتجارب السلبية في حياتنا، بدلاً من التجارب الإيجابية أو المحايدة، ويُسمّى هذا السلوك بـ"التحيُّز السلبي".
وعادة ما نميل إلى التركيز على السلبيات في الأمور حتى عندما تكون التجارب السلبية غير مهمة أو غير منطقية بالمقارنة مع الإيجابيات.
على سبيل المثال، جلست في مطعم فاخر وله إطلالة على البحر، ولكن صادفتك ذبابة مزعجة ظلت تحوم حول صحنك لدقيقتين، برأيك هل ستركز حينها على الإطلالة؟ أم ستظل منزعجاً من الذبابة؟
التحيُّز السلبي نمط أوتوماتيكي في غالبية البشر
بحسب الدراسات العلمية التي حللت ميلنا إلى التحيُّز السلبي، كانت الغالبية العظمى من البشر أكثر تركيزاً على موقف الذبابة، وأغفلوا تماماً جمال المطعم وتصميمه وإطلالته.
وتميل التجارب السلبية إلى التأثير على الأشخاص أكثر من التجارب الإيجابية بشكل كبير.
ففي تقرير نُشر عام 2010 بجامعة كاليفورنيا، يقول عالم النفس ريك هانسون: "العقل مثل الفيلكرو (مادة جاذبة) للتجارب السلبية، ومثل التفلون (مادة مضادة للالتصاق) التجارب الإيجابية".
ويمكن أن يؤثر هذا التحيز السلبي في الطريقة التي نشعر بها، ونفكر بها، ونتصرف وفقاً لها، ويمكن أن يكون له بعض التأثيرات غير المرغوب فيها على حالتنا النفسية.
إذن كيف يحدث هذا الانحياز وكيف يمكننا التغلب عليه؟
ما هو التحيُّز السلبي؟
يشير التحيز السلبي إلى ميولنا إلى "الاهتمام بالمعلومات السلبية والتعلم منها واستخدامها أكثر بكثير من المعلومات الإيجابية".
وبحسب موقع Positive Psychology لعلم النفس، يمكننا التفكير في الأمر على أنه عدم تناسق في كيفية معالجتنا للأحداث السلبية والإيجابية لفهم عالمنا.
إذ تثير لدينا الأحداث السلبية استجابات أسرع وأكثر وضوحاً من الأحداث غير السلبية، وبالتالي تترك أثراً أكبر وتعلق في الذاكرة والخبرات.
ومن بين أمور أخرى، يمكن أن يفسر هذا الانحياز سبب قيامنا بما يلي:
- تذكر الإهانات والتفكير فيها أكثر من المجاملات.
- الاستجابة أكثر -عاطفياً وجسدياً- للمثيرات المكروهة.
- الإسهاب في الحديث عن الأحداث المؤلمة أكثر من الممتعة.
- تركيز الانتباه أسرع على المعلومات السلبية بدلاً من الإيجابية.
حتى عندما نشهد العديد من الأحداث الجيدة في يوم واحد، يمكن أن يدفعنا التحيز السلبي إلى التركيز على الشيء السيئ الوحيد الذي حدث.
ويمكن أن يقودنا ذلك إلى اجترار الأشياء الصغيرة، والقلق بشأن ترك انطباع سيئ.
ولكن من أين يأتي هذا التحيز؟ وهل يمكننا تعلم اكتشاف أمثلة على التحيز السلبي في الحياة الواقعية؟ وكيف نتجنب الوقوع في فخ الوقوع في الأحداث السلبية؟
العوامل التي تؤدي لإصابتنا بالانحياز السلبي
وفقاً لعالم النفس ريك هانسون، تم تطوير تحيُّزنا السلبي في أدمغتنا استناداً إلى ملايين السنين من بناء المعرفة فيما يتعلق بالتعامل مع التهديدات.
فقد عاش أسلافنا في بيئات صعبة، وكان عليهم جمع الطعام مع تجنب العقبات المميتة من التعرُّض للحيوانات المفترسة.
وبالتالي أصبحت ملاحظة الحيوانات المفترسة والمخاطر الطبيعية (السلبية) والتفاعل معها وتذكرها أكثر أهمية من العثور على الطعام (إيجابي). أولئك الذين تجنبوا المواقف السلبية مرروا جيناتهم عبر البشر.
وبالفعل، ساعدهم التحيز السلبي على تجنب المحفزات ومصادر الخطر.
ومن الصعب المجادلة بأن التحيز السلبي قد يكون غير مفيد في بعض الظروف، ولكن مع نمو المجتمع وتطوره، لم يعد هذا الاتجاه الراسخ مفيداً كما كان من قبل.
الدماغ يستجيب للسلبيات بشكل أكبر
وبحسب Positive Psychology، فإن أدمغتنا تستجيب بشكل مكثف للمنبهات السلبية. وقد قدم الباحثون في دراسة علمية بهذا الإطار، صوراً لـ33 مشاركاً، وقاسوا النشاط الكهربائي لأدمغتهم لتسجيل استجاباتهم.
الصور كان بعضها محايداً وبعضها إيجابياً، ووردت بعض الصور السلبية.
وأظهرت النتائج أن هناك الكثير من الإمكانات في الدماغ المرتبطة بالحدث أو النشاط عندما يرى المشاركون صوراً سلبية، على عكس الصور الإيجابية، ما دفع الباحثين إلى استنتاج أن تقييماتنا تتأثر بشدة بالأول.
التحيُّز السلبي وارتباطه بالتغطيات الإخبارية
في جميع أنحاء العالم، تميل المقالات الإخبارية السلبية أن تهيمن أكثر على وسائل الإعلام بأنواعها. وإحدى الفرضيات وراء السبب أنه يعود إلى التحيز السلبي، لذلك تجذب التغطية السلبية الانتباه أكثر من التغطية الإيجابية.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت دراسة نشرتها مجلة Hogrefe العلمية عام 2011، أنه من المرجح أن يُنظر إلى الأخبار السلبية على أنها أدق وأكثر صدقاً.
ونظراً لأن المعلومات السلبية تجذب مزيداً من الاهتمام، فقد يُنظر إليها أيضاً على أنها تتمتع بصلاحية أكبر.
قد يكون هذا هو سبب جذب الأخبار السيئة لمزيد من الاهتمام.
العقل يميل إلى التفكير في الأحداث السلبية أكثر
هل سبق لك أن توقفت عند موقف فظيع حدث في وقت سابق من الأسبوع، على الرغم من أن كل شيء آخر يسير على ما يرام؟
ميلنا إلى التفكير أكثر في الأحداث السلبية هو مثال آخر على هذا التحيز السلبي.
وكشفت دراسة عام 2009 بحسب موقع Healthline للصحة، أدلة وافرة تشير إلى أن المشاعر السلبية تدوم لفترة أطول من المشاعر الإيجابية، وأننا نميل إلى قضاء المزيد من الوقت في التفكير في الأحداث السلبية.
ومن المحتمل أن يكون هذا مرتبطاً بعمليات التعلم والذاكرة. فكلما زاد اهتمامنا بمحفز أو تجربة ولو في صورة اهتمام سلبي، زادت احتمالية التزامنا به في الذاكرة.
التوجه والميول السياسية والتحيُّز السلبي
كذلك تم ربط الاختلافات في التحيز السلبي بالأيديولوجية السياسية.
وتشير بعض الأبحاث إلى أن المحافظين قد تكون لديهم استجابات نفسية أقوى للمعلومات السلبية من الليبراليين. ووجدت بعض الأدلة بحسب موقع Very Well Mind للصحة العقلية والنفسية، على سبيل المثال، أن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم محافظين سياسياً هم أكثر عرضة لتصنيف المواقف والمحفِّزات الغامضة على أنها تهديد.
وقد تفسر مثل هذه الاختلافات في التحيز السلبي سبب ميل بعض الناس إلى تقدير أشياء مثل التقاليد والأمن والتشدد، بينما يكون الآخرون أكثر انفتاحاً على تقبل الغموض والتغيير.
كيف يمكننا تعديل تحيُّزنا السلبي؟
رغم العوامل الكثيرة التي تزيد من ميلنا إلى السلبية، فإن الدرجة التي يتحكم فيها هذا السلوك في تقدير الذات، وانعدام الأمن، والحزن، والغضب، والمرارة، والمشاعر السلبية الأخرى تعتمد على عدد كبير من العوامل.
وتشمل تلك العوامل تربيتنا، والمدخلات التي تلقيناها ممن حولنا ممن نقدّر آراءهم، وكيف نفسر ذهنياً الأمور والمواقف المختلفة.
لكن بحسب موقع Psycom للصحة النفسية، فإن العامل الأساسي الوحيد الأكثر أهمية هو كيف نتحدث مع أنفسنا عن تجاربنا.
يقول أستاذ علم النفسي بجامعة ولاية أوهايو، كينيث ييغر، إنك عندما تحدث نفسك تضع في اعتبارك أنشطتك اليومية، وحينها يجب أن تلاحظ ما هو مهم.
وبشكل أساسي تحتاج إلى بذل جهد في التقييم الحقيقي لكل الجوانب الجيدة والإيجابية في حياتك حتى لا تتغلب عليك السلبية.
وحتى إذا كنت تواجه العديد من المواقف السلبية الحقيقية يمكنك محاولة تقدير الجوانب الإيجابية في حياتك أكثر، لتقاوم الانجراف في الحزن، بغض النظر عن صغر حجم تلك الإيجابيات.
خطوات عملية لموازنة التحيُّز السلبي
ولموازنة السلبية في حياتنا يمكنك القيام بالآتي:
1- كن مستعداً للتعرف برفق على ما يحدث عندما تبدأ الأنماط السلبية في الظهور، ومارس القيام بنشاط ما في كل مرة -حتى لو كان شيئاً صغيراً جداً- لكسر هذا النمط.
2- وإذا كنت تميل إلى الإفراط في تحليل أجزاء من المحادثات التي تعتقد أنها سلبية فابحث عن هواية أو عادة تمنعك من الإفراط في التحليل، مثل القراءة أو الجري أو تنظيف محيطك أو إنشاء قائمة تشغيل موسيقية تجعلك تشعر بالسعادة.
3- لاحظ حوارك السلبي مع ذاتك واستبدله بكلام إيجابي، مثلاً بدلاً من قول "أنت غبي، كيف فعلت هذا الخطأ!" قل "كنت أتمنى لو كنت قد اتخذت خياراً مختلفاً، وفي المرة المقبلة سأتعلم من هذا الخطأ، وسأتذكر كيف كنت أتمنى أن أكون قد تصرفت وأطبقه على المواقف المستقبلية".
4- هناك تكتيك آخر قد يبدو غريباً في البداية، ولكن يمكن أن يساعدك في التعامل مع صوتك الداخلي اللئيم بلطف، وهو التحدث إلى نفسك كما تفعل مع صديق، بصيغة المخاطب حتى.
وعندما تتطفل الأفكار السلبية عليك اسأل نفسك، "هل أنت بخير؟ ما هو الخطأ؟ لماذا أنت غاضب جداً بهذا القدر؟ هل تشعر بالأذى؟". الفكرة هنا هي أن تقاطع نفسك بلطف عندما تبدأ في التحدث عن نفسك بصيغة مفرطة التركيز على السلبية.
5- والأهم من ذلك هو "تنمية موقف لطيف وفضولي وصبور مع نفسك"، وتعلم الاحتفال بالانتصارات الصغيرة بينما تدرك أنه قد تمر عليك أيام من التدهور، لكن كل هذا جزء طبيعي من عملية التعلم والنمو.