"تخيُّل المُستقبل نوعٌ من الحنين إلى الماضي"، جملة قالها مؤلف الخيال الأمريكي، جون غيب، في روايته "البحث عن ألاسكا" (يمكنك تحميلها من هنا)، يشير من خلالها إلى أنَّ البشر يتخيلون ما سيكون عليه المستقبل باستخدام ذكرياتهم، ولكن ما رأي العلم في الموضوع؟
كيف نتخيل المستقبل؟
إذا لم تكن متزوجاً بالفعل، فربما تتخيل حفل زفافك كيف سيكون، على الشاطئ مثلاً، أو في صالة كبيرة، أو تحت الأشجار المزينة بالأضواء المتلألئة، ومن ثم تتخيل الضيوف، كيف سيبدون؟ ما الذي سترتديه شريكك، إضافة إلى كثير من التفاصيل التي لا تنتهي.
ويقول كارل زبونار، أستاذ علم النفس بجامعة إلينوي في شيكاغو: "إنَّ أول دليل على أن الذاكرة وتخيُّل المستقبل يسيران جنباً إلى جنب، جاء من خلال مرضى فقدان الذاكرة".
وأضاف زبونار، وفقاً لما ذكرته مجلة The Atlantic الأمريكية، أن المرضى الذين يفقدون ذاكرتهم يفقدون أيضاً القدرة على تخيُّل المستقبل.
وأشار أيضاً إلى أن أحد المرضى كان مصاباً بالصرع، ولعلاجه خضع لعملية جراحية تجريبية في لعام 1953، أزيلت خلالها عدة أجزاء من دماغه، من ضمنها الحصين المسؤول الرئيس عن الذاكرة، وبعد العملية أصبح المريض يعاني من فقدان ذاكرة شديد وفقدان للقدرة على تخيل المستقبل.
منذ ذلك الحين، سمحت فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي للباحثين بتحديد أن الدماغ نفسه يشارك في كل من عمليتي التذكر أو التخيل المستقبلي.
في دراسة أجراها الطبيب زبونار، نظر هو وزملاؤه في نشاط الشبكة العصبية للدماغ والتي تشمل الحُصين إضافة إلى المناطق التي تتضمن معالجة المعلومات الشخصية، والتنقل المكاني، والمعلومات الحسية ووجدوا أن النشاط في هذه الشبكة كان مرتبطاً فيما يخص توقع الأحداث المستقبلية وتخيلها.
ما علاقة شبكة الوضع الافتراضي DMN بالتخيل؟
أما الطبيب جوزيف كابل، أستاذ قسم علم النفس في جامعة بنسلفانيا، فيرى أنّ هناك جزءاً بالدماغ اسمه "شبكة الوضع الافتراضية DMN"، وتلعب دوراً أساسياً في تخيُّل المستقبل.
تعريف شبكة الوضع الافتراضي: هي شبكة دماغية واسعة النطاق مكونة بشكل أساسي من القشرة أمام الجبهية المتوسطة، وقشرة التلفيف الحزامي الخلفية والتلفيف الزاوي، وتُشتهر بنشاطها عند عدم تركيز الشخص في العالم الخارجي، إذ يكون الدماغ في حالة راحة يقظة، مثل حالتي حلم اليقظة والشرود الذهني، وتلعب دوراً هاماً في تذكُّر الماضي والتخطيط للمستقبل.
وأضاف كابل، وفقاً لموقع The Good Men Project، أنه رغم أن هذه الشبكة العصبية تلعب دوراً في تخيُّل المستقبل، فإن العلماء لم يفهموا كيفية عملها على وجه الدقة.
وفي بحث نُشر بمجلة علم الأعصاب، اكتشف الباحثون أنه عند تخيُّل المستقبل، تنقسم شبكة الوضع الافتراضي إلى جزأين يكمل أحدهما الآخر.
الأول: يساعد في إنشاء والتنبؤ بالحدث المتخيَّل، أو ما يطلق عليه الباحثون وظيفة "البناء".
الثاني: يقيّم ذلك الحدث المتخيل إيجاباً أو سلباً، أو ما يُطلق عليه الباحثون وظيفة "التقييم".
ويقول كابل: "عندما يتحدث خبراء علم النفس عن سبب قدرة البشر على تخيُّل المستقبل، عادةً ما نتوصل إلى أن السبب هو إمكانية تحديد ما يجب فعله بالضبط والتخطيط واتخاذ القرارات الأنسب، لكن تظل الوظيفة الأهم هي التقييم؛ إذ لا يتعلق الأمر بالتوصل إلى احتمالية وتخيُّل وتنبُّؤ فقط، وإنما بإمكانية تقييم ذلك الاحتمال باعتباره جيداً أو سيئاً".
تجربة علميّة لمعرفة المناطق المسؤولة عن التخيل
وفي سبيل تحديد المناطق المنوط بها بشكل أدق معرفة كيف يحدث التخيل، أجرى باحثون دراسة على 13 أنثى و11 ذكراً، استقبلوا أوامر وتوجيهات في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي.
كان أمام المشاركين 7 ثوانٍ لقراءة واحد من التعليمات البالغ عددها 32، مثل: "تخيُّل أنك تجلس على شاطئ دافئ في جزيرة استوائية"، أو "تخيُّل أنك ربحت اليانصيب في العام المقبل".
ومن ثم يكون لدى هؤلاء المشاركين 12 ثانية للتفكير بشأن هذا السيناريو، ومن ثم 14 ثانية لتقييم وضوح وتكافؤ هذا الاحتمال.
يقول كابل: "الوضوح هو درجة احتواء الصورة التي تتبادر إلى الذهن على كثير من التفاصيل، ومقدار وضوح تلك التفاصيل بشكل شخصي وليس بهيئة غامضة، والتكافؤ هو التقييم العاطفي، هل ذلك الحدث سلبي أم إيجابي؟ هل هو شيء تود حدوثه أم لا؟".
خضع المشاركون لتلك العملية 4 مرات، وفي كل مرة، يراقب الباحثون نشاط الدماغ من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وأكّدت التجربة مشاركة شبكتين فرعيتين في تلك العملية.
الشبكة الأولى: أطلق عليها شبكة الوضع الافتراضي الظهرية، تأثرت بالتكافؤ، بعبارة أخرى، كانت أكثر نشاطاً للأحداث الإيجابية عن الأحداث السلبية، ولكنها لم تتأثر على الإطلاق بعملية الوضوح، ليبدو أنها تساهم في التقييم فقط.
الشبكة الثانية: أطلق عليها شبكة الوضع الافتراضي البطنية، وكانت أكثر نشاطاً للأحداث عالية الوضوح عن الأحداث التي تخلو من التفاصيل، ولكنها لم تتأثر بعملية التكافؤ، وكانت نشطة بشكل متساوٍ في الأحداث السلبية والإيجابية، مما يوضح أنها تساهم بشكل رئيسي في عملية بناء الحدث الخيالي.