قبل عامين -في مثل هذا الوقت- كانت أغلب البيوت تدور فيها قناة تلفزيونية تبث مباشرة من الحرم المكي أو من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصور الحجيج في مناسك الحج، الآلاف، بل الملايين كانوا يلتفون حول البيت العتيق كأنهم بينان مرصوص، هذا من جنوب إفريقيا، وهذا من شمال الصين، وهذه عربية، وتلك غربية؛ الجميع على عرفات، منى، في ساحات البيت يطوفون والجميع عنده سواء.. ثم فجأةً ولسببٍ ما مُنعنا، جاء الوباء وألزم الجميع بيته، أُغلقت ساحات الحرم فكان البث المباشر في العام التالي لنفس الساحات التي امتلأت دوماً بأمة خاتم الأنبياء فارغة تماماً منا، مشهد يمكن أن يستحضره الجميع أمام عينيه الآن ويتذكر وقعه في نفسه.. كم تألمنا وبكينا لهذا.
لم يؤثر هذا فقط على موسم الحج في مكة والمدينة المنورة، تأثرت أيضاً كل مدن العالم، لم يستطع الجميع أداء صلاة العيد المعتادة في جو مليء بالناس والأطفال وضحكاتهم ولعب الصغار منهم خلال الصلاة حتى شراء البالونات الملونة، كنت تخاف أن تكون معبأة بنفَس يصيب صغيرك بمكروه، لم تكن تستطيع أداء الصلاة وأنت محاذٍ للصف وكتفك في كتف أخيك كما علمنا رسول الله، وعلى مدى الوباء كله، كنت تخاف قضاء وقت كبير خارج المنزل، طيلة اليوم تُعقم نفسك ترتدي كمامة تحول بينك وبين شهيقك وتخنقك بزفيرك حتى تشتاق لأن تشم هواء الشارع دون حجاب، كلها نعم غفلنا عنها.. أو اعتدناها فنسينا الحمد.
انتشرت مقولة من شعائر العيد إبداء الفرحة والسرور، وقد تقع في نفس البعض وقع الفرض، كأن الدين -حاشاه- يجبرك على التبسم وأنت تقطر دماً، أو أن يأمرك الله بإبداء الفرحة وكأنه -حاشاه- لا يعلم ما في أنفسنا، بل والأكثر أننا كنا نتجرأ على الله بظننا أنه يأمر بما لا نستطيع، وتوهمنا أننا نعلم ما في نفسه، لكن سبحانه يعلم ما في أنفسنا ولا نعلم ما في نفسه، يعلم ما تواجهك به الحياة، يعلم كم أنك متعب من السعي والركض خلف قوت يومك وقوت صغارك، يعلم أنك منهك تماماً مما عانيته من فقد ومن صدمات ومن غدر ومن مصاعب، ويعلم أنك تتألم، وأن الألم يفيض من روحك، وأنك قد بلغ بك البلاء مبلغه، فجعل لك أياماً من رحمته تتوسل فيها بحوله وقوته فيغيثك، تبكي أوجاعك كلها بين يديه وترجو من رحمته آمالك كلها، تلوذ به وتبرأ منك إليه، ورغم علمه الذي وسع كل شيء يسمعك فيجيبك ويلطف بقلبك ويثلج صدرك، ولو كررت ذلك عدد أنفاسك.
ورغم رحمته هذه ما قدرناه حق قدره، وكالابن العاق الذي ظن بأبيه السوء -ولله المثل الأعلى- ذهبنا طيلة أعوام نكتب "عيد؟ بأي حال جئت يا عيد!"، وتمتلئ صفحاتنا بالكتابات الحزينة اليائسة، ونصف حالات الضجر وكيف أن العيد ممل، كالعبد الذي شعر بالإهانة حينما نال حريته فرفضها، فلم نعد نشعر بالعيد وإن حاولنا إبداء الفرحة تجد من يقول لك: "هو فين العيد ده؟"، تصرفنا وكأننا نعلم ما تحتاج إليه نفوسنا وبئس ما علمنا.
إن أعيادنا الإسلامية كلها مميزة في الأساس، ميزة جهلناها والآن نتعلمها ونعلمها فهاهي أيام الله تفصلك من جل همك، كأنما أمنيتك بأن يتوقف الزمن لحظات تلتقط فيها أنفاسك- تتحقق، ولكن ليس للحظات بل لأيام ثلاثة أو أربعة.
وتشاءُ أنت من البشائر قطرةً
ويشاء ربُك أن يُغيثك بالمطر
تتفرغ فيها من كل شيء إلا من الابتهاج بالعيد، وتفرغ رأسك من كل شيء إلا من الجلوس والتلذذ بالعبادات، فتصلي وتصل الأرحام، ترضي الطفل الكامن في نفسك فتجمع أطفال الحي كلهم وتشاركهم اللعب بالبالونات والألعاب النارية وركوب عربات الخيل والغناء بصوت واحد يسمع الحي كله، مصحوباً بالضحكات، تجلس مع جمع الرفقة القدامى تضحكون وتتشاركون المواقف الطريفة، أو جمع العائلة فتلتف العائلة كلها حول مائدة يترأسها الجد وجواره الجدة، ويأتي أحب فصل إلى قلبي شخصياً بتوزيع العيدية، فنذهب ونشتري بثرواتنا الطائلة هذه مجموعة من الألعاب والتسالي أو المثلجات، وبعدها يشتكي الجيران من صوت الضجيج المصاحب لتجمع أبناء العائلة، فيعتذر أحد الكبار عنا ويقول: "عيد بقى.. كل سنة وأنت طيب"، فيبتسم الجار وكأن حجتكم غلبته.. أو يأتي المحب لزيارة حبيبته المصونة في بيت أهلها، فيصبح العيد أعياداً بفرحة العين بجمال النظرة.. عيد؟ ليتَك تأتي على كل حال يا عيد.
كلها نعم من الله، لم نعبده فيها حق عبادته، فتنزه الرب تعالى بأن يعلمنا، فمكثنا عاماً محرومين من الأيام العادية التي ضجرنا من كونها عادية فأصابنا ما أصاب، ولكن طول الصبر ينبئ بعظم الجبر مع أننا المخطئون في الأساس، ولكن سبحانه اللطيف بعباده يعاقبهم ويجازيهم بما صبروا جنة وحريراً، فجاء العيد هذه المرة بأعياد كثيرة في قلوبنا، وكأن الله يكافئنا.. وبدأ الحجيج الوصول إلى الحرم لأداء المناسك من جديد.
"وصول الفوج الأول"
كانت اللحظة هذه خصيصاً بداية العيد عندي، وجاء عرفات، دعونا وتعبدنا، كانت مواقع التواصل تضج بالذكر والدعوات، وكانت البيوت ممتلئة بأصوات التكبير مفروشة بالصلوات والدعوات مزينة بالحمد والصبر، نلوذ بالدعاء لأننا تعلمنا أننا بحولك فقط لا يُقدر علينا.
سهرنا كعادة الأعياد حتى صلاة الفجر، وبدأ التأهب للحظات التي تشعر فيها ببداية العيد حقاً، نزلنا جميعاً رجالاً ونساء وأطفالاً بأعداد فوق العادية، نؤدي صلاة العيد فنذهب من طريق ونحن نكبر بألسنتنا التكبيرات "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله"، وداخلنا نهمس: أكبر من أي شيء وأعظم من كل شيء ووسع برحمته كل شيء، من ثم يبدأ شراء الألعاب مع الصغار ونشارك الجميع بصور صلاة العيد وننتظر الجزارين لنحر الذبائح، مقيمي شعائر الله، مستحضرين ذكرى معجزة أبوينا إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، مذكرين أنفسنا كيف ينتهي الأمر حينما نثق بأن الله لا يضيعنا، ونمضي في حكمه غير عابئين بأي شيء إلا الامتثال لأمره.
عامٌ واحدٌ كان كفيلاً تماماً لنتعلم كثيراً من الأشياء أهمها الحمد، لنعلم أيضاً قيمة أن يكافئنا الله بالعيد حتى إن لم يكن هناك وباء لننجُو منه، قيمة أن يمر يوم عادي دون حدث يعكر صفو كونه عادياً، قيمة أن ترمش عينك دون الخوف من مكروب لعين قد يصيبك، أو تمتلئ رئتاك بالأوكسجين، وتشتم الهواء مباشرة دون وقاية أو حذر.
كل النعم والنقم مبلغها أن ترى الله فيها، لا يمكنك أن ترى إن أردت.. ترى إن قال هو "كن" فلك الحمد أنك الله، ولك الحمد أنك -سبحانك- أنت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.