يكون المكان جميلاً عندما يأسر حواسك وتسكن فيه روحك قبل جسدك، الجمال سلام وطِيب تلقاه في نفسك، واتزان لبديع طاقات المكان، ويكون المكان جميلاً بقدر ما وضع المصمم فيه من روحه، وبقدر ما خاطب بصدق أرواح الآخرين وبمقدار دفء رسائله إليهم وعمق عطائه لهم.
التصميم بشكل عام هو لغة عالمية تعج بالأفكار والمعاني والجماليات والتحديات، والمدن عوالم مبنية تحتوي حياة الإنسان ونشاطاته وأحلامه وذكرياته، وملاذه الآمن ونواة العيش والسكن والاستقرار، وهي أيضا البيئة الحاضنة لمعارك الحياة اليومية وتحديات الرزق والكسب وإيقاع الحياة الضاغط.
ونسبية الإحساس بجمال المدينة تأتي من فلسفة الجمال ذاته، حيث لا يمكن التفكير فيه بصفة مجردة، أو تناوله في شكل معادلات ثابتة، أو صيغ جامدة، كونه يرجع إلى صفات حسية وبصرية تتعلق بالشكل، وهو ما يؤثر في إحساس الإنسان ووجدانه.
وعملية استيعاب صورة المدينة تأتي على مستويين: الأول الاستيعاب المباشر بما يقع تحت نظر المشاهد والمتجول بشكل عام في شوارع المدينة لحظة الرؤية، والثاني يتعلق بما يحمله المشاهد من صور وانطباعات وأحاسيس أثناء تجوله في المكان متفاعلاً مع كافة أنواع الجمال سواء الجمال الحسي أو الجمال العاطفي أو الجمال الفكري للمدينة، وهنا تدخل تفاصيل روائح الأمكنة وملامح المباني القديمة والأنشطة العتيقة أو الإيقاع الحديث المبهر والسريع والبارد في بعض الأحيان.
والمدينة المستدامة توفر للإنسان مقومات الحياة، وتمنحه الخيال لتصور الحياة للأجيال القادمة، حيث إنها عندما تتعاطف مع سكانها وتحترم اختلافاتهم وتلبي احتياجاتهم من أصغر فرد إلى أكبرهم، ومن الأشخاص العاديين إلى كبار السن وذوي الهمم والاحتياجات الخاصة، هذه المدن تغذي روح الإنسان وتمنحه مكاناً يشعر فيه بقيمته الحقيقية وإنسانيته، ولا تجعله قزماً ضئيلا بين مبانٍ إسمنتية عملاقة.
إن المدن لا يمكن أن تكون نتاج التخطيط العمراني فقط، فالمدينة الإنسانية تحتاج إلى شراكة بين المعماريين والمصممين والفنانين وعلماء الاجتماع والمثقفين وغيرهم، لكي تتضافر الجهود لجعلها ملائمة للإنسان بشكل يثري حياته.
المدن ذات البعد الاجتماعي هي مدن ذات ألفة تشجع التفاعل بين فئات المجتمع، كما تمكن الإنسان من التجاوب مع ماضيه وحاضره وتضمن له استدامة مستقبله. عند تبنّي هذه المفاهيم تتشكل شخصية المدن الفريدة؛ لأن السكان سيكون لهم دور كبير في تشكيلها بحسب خلفياتهم الثقافية وبيئاتهم المتنوعة.
إذن تعامل مع المدن على أنها كائنات حية لها طعم ولون وروح ورائحة، لكل مكان وهج وطاقة وأسرار، وعادة لا تخبرك الأماكن الجميلة بحكاياتها مرة واحدة، بل يجب أن تطمئن لك وتسمع حديثك، وتستشعر صدقك، فإذا ما جاوزت شفرة المرور فتحت لك طيات كتابها واستوطنتَ قلبها وأصبحت من أهلها، وإلا توجسَت حضورك وعاملتك كغريب، لك في ضميرها واجب الضيافة الكريم، وابتسامة صنعت خصيصاً لعابري السبيل، وملحوظة مهذبة بألا تنسى عند الرحيل أن تغلق خلفك الباب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.