منذ دخول الهواتف الذكية إلى حياتنا قبل 15 عاماً، بات الاتصال المستمر بالإنترنت السمةَ الرئيسية لأسلوب الحياة العصري. ورغم إيجابيات القدرة على الوصول إلى المعلومة في لحظات، كان لهذه القدرة تأثير على سلوكيات الناس على مدار اليوم.
وتُشير التوقعات إلى أن عدد الهواتف الذكية المتصلة بالإنترنت في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء على سبيل المثال، سيصل إلى 678 مليوناً بحلول نهاية عام 2025، مما يُمثل نسبة اعتمادٍ تصل إلى 65% من سكان المنطقة، حسب موقع The Conversation؟
ويتفحص العديد من الأشخاص هواتفهم حين يستيقظون، ويستخدمونها أثناء التنقل، ويراقبونها باستمرار وهم في العمل، بل إن شاشة الهاتف آخر شيءٍ يراه العديدون قبل الخلود إلى النوم.
أصبحت هذه السلوكيات متجذرةً في روتين الناس اليومي بلا شك، لدرجة أننا نادراً ما نتأمل في مدى تأثيرها على أجسادنا وعقولنا.
والتفاعل مع هذه الأجهزة يتضمّن عمليات تبديل ذهنية من سياقٍ لآخر باستمرار، إذ تُبقي الهواتف الناس متاحين دائماً أمام التواصل والمعلومات من مختلف مناحي الحياة.
تأثير الهاتف الذكي على العقل
وعلى مدار العقد الماضي، تكيّف الناس مع طوفان المعلومات هذا بطرقٍ مختلفة. وأشهرها تعدد مهام الوسائط: وذلك من خلال التوفيق المستمر بين الأنشطة باستخدام العديد من الأجهزة الرقمية المتصلة بمختلف المنصات على الإنترنت.
وفي دراسةٍ مُهمة من عام 2009، طرح باحثو جامعة ستانفورد سؤالاً مهماً: هل الأشخاص الذين يُوفِّقون بين الوسائط بهذه الطريقة أفضل في التبديل بين المهام من الأشخاص الذين لا يفعلون ذلك؟
وهل من يتمتعون بقدرات تعدد مهام الوسائط يستطيعون معالجة المعلومات بطريقةٍ مختلفة عن الأشخاص الذين يفعلون ذلك بدرجةٍ أقل؟
وبينما يفترض البعض أنّ تعدد المهام باستمرار يُدرب عقل المرء على التبديل بفاعلية بين المهام العقلية، توصلت الدراسة إلى اكتشافٍ مفاجئ، مفاده أنّ من يُديرون العديد من مهام الوسائط كانوا أسوأ أداءً في التبديل بين المهام.
كما كان من السهل تشتيت انتباههم بالمعلومات التي ليست لها علاقةٌ بالمهمة التي يعملون عليها.
وبعد مضي عقدٍ على إجراء الدراسة، حقَّقت العديد من الجماعات البحثية حول العالم في هذه المسألة. وقد أكّدت بعض الدراسات النتائج الأصلية، ولم تؤكدها بعض الدراسات الأخرى، بينما توصّلت بعض الدراسات إلى نتائج مُناقضة.
تعدد مهام الوسائط والتحكم المعرفي
وبالنظر إلى هيمنة تعدد مهام الوسائط، وأهمية الانتباه ضمن العديد من السياقات الأكاديمية والمهنية والاجتماعية؛ فنحن بحاجة إلى فهمٍ أوضح للارتباطات بين تعدد مهام الوسائط والتحكم المعرفي.
إذ يتضمن التحكم المعرفي استغلال الذاكرة والتثبيط المعرفي لتحقيق الهدف، وتركيز الانتباه على مهام عقلية بعينها مع تجاهل المشتتات.
وبعد تحليل الدراسات التي أُجريت منذ عام 2009، وجدت الدراسة الجديدة التي نُشرت على موقع The Conversation، أن الصورة المنبثقة عن تلك الأدلة تبدو أقل وضوحاً مما اقترحته النتائج الأولية.
ومن الضروري التفكير في مدى قوة ارتباط تعدد مهام الوسائط بالتحكم المعرفي من أجل فهم التفاعل بينهما.
الدراسة التي قامت بتحليل بيانات 46 دراسة، توصلت إلى أن سلوك تعدد مهام الوسائط له تأثيرٌ صغير على التحكم المعرفي.
وأشارت إلى أن الأشخاص الذين يتمتعون بدرجةٍ عالية من تعدد مهام الوسائط ليسوا أسوأ أداءً ممن يتمتعون بدرجةٍ منخفضة من تعدد مهام الوسائط، وذلك عند إخضاعهم لمهام داخل المختبر، عكس الحال في المهام التي يجري الإبلاغ عنها ذاتياً.
هل تجعل الهواتف الدماغ كسولاً؟
باستخدام الهواتف الذكية، لم تعد بحاجة إلى حفظ رقم هاتف أو العثور على طريقك في جميع أنحاء المدينة باستخدام خريطة، فهاتفك الذكي يقوم بهذه الأشياء نيابة عنك.
تُظهر الأبحاث أن هذا الاعتماد المفرط على هاتفك الذكي يمكن أن يؤدي إلى الكسل العقلي.
كتب الدكتور دان كوف في ورقة نُشرت على موقع UNC HEALTH: "إذا أعطيت الناس القدرة على تخزين المعلومات عن بُعد، خارج دماغهم، فإنهم يصبحون أكثر اعتماداً على ذلك المصدر، الأمر الذي يمكن أن يكون له تأثير سلبي على ذاكرة الناس".
وأوضح: "لأنهم أصبحوا معتمدين بشكل كبير على تلك المساعدة الخارجية، فإنهم يفقدون مهارة القدرة على تذكُّر الأشياء بأكبر قدر ممكن من التجديد، في غياب تلك المساعدة الخارجية".
ماذا عن الإشعاع؟
هناك كثير من القلق حول مخاطر الصحة والسلامة لمراكز الهواتف المحمولة على الإشعاع المنبعث.
تطلق الهواتف المحمولة طاقة الترددات الراديوية أو موجات الراديو التي يمكن أن تمتصها أنسجة الجسم. في الماضي، ربطت الدراسات الاستخدام الكثيف للهاتف المحمول بأورام دماغية معينة.
لكن وفقاً لما قاله رئيس وحدة التعرضات البيئية والصحة في المعهد السويسري للصحة الاستوائية والعامة مارتن روسلي لموقع DW، فإن نوع الإشعاع المنبعث من الهاتف المحمول لا يدعو إلى القلق.
استعادة التركيز
إجمالاً، يمكن القول إن الأدلة تُشير إلى وجود كثير من الأمور المجهولة بشأن التأثيرات طويلة الأمد لاستخدام الأجهزة الرقمية على الإدراك. ولم يكن هناك كثير من الوقت لدراسة مزايا وعيوب طريقة العيش هذه بكل حرص.
ولكن، بعيداً عن التأثيرات المحتملة على المدى الطويل، فمن المفيد أن نفكر في تأثيرات الأمر على الروتين اليومي.