مررت كثيراً بمشاعر مختلفة تتفاوت وفق الظروف التي عايشتها، فكثيراً ما كنت أحب الانعزال لفترة من الوقت بعيداً عن التعاملات غير الضرورية مع الآخرين ولم أكن أشعر بأي أعراض تدل على الاكتئاب، ولكن فقط كنت أريد هدنة من التعاملات وإعادة ترتيب أفكاري وأهدافي وعلاقاتي أيضاً بمن حولي، ولم يسبب لي ذلك أي حرج، وإنما تدخل الآخرين بالحكم والتصنيف أو التعليق على مشاعري وعناء التوضيح لهم هو ما كان يمثل العبء الأكبر لي.
وفوق كل ذلك لا تجدهم يستمعون ليتفهموك بصدق، إنما هم لديهم قناعة وحكم مسبق حولك من منظورهم الشخصي ويريدون فقط إخبارك بهذا الحكم الصادر بحقك غيابياً، فاستمع عزيزي ولا تبالِ، وإن استطعت ألا تستمع كان ذلك الخيار الأفضل بالتأكيد والمهم هو "راحة البال"، فمشاعر مثل التيه والتوتر، الرغبة في العزلة وتغيير الأصدقاء، إرجاء عمل اليوم إلى الغد، طلب الدعم من الآخرين والرغبة في الحب، كلها مشاعر نمر بها جميعاً على فترات متفاوتة تطول أو تقصر، تشتد بنا أو تضعف حسب ما نعايشه في حياتنا، وهذا لا بأس به، نتفهمه ونتقبله أحياناً إن كنا على وعي كافٍ بأنفسنا واحتياجاتها.
ولكننا قد نتخبط ونقلق حيال ما نمر به إن لم نكن على بصيرة ومتابعين جيدين لما يحدث معنا، ولكن كل ذلك يهون، وإنما ما قد يخرجنا عن طورنا حقاً هو عناء الشرح وإرهاق التبرير للمجتمع من حولنا أننا بخير ومن الطبيعي أن نمر بذلك بين الحين والآخر، وأن الأمر لا يتطلب الطبيب أو المختص النفسي، ونرجو أن يتوقفوا عن تصنيفنا بالكآبة، ولكن مع الأسف قلة هم من يتفهمون مشاعرنا وتصرفاتنا وما نمر به، بينما يحكم عليها الكثيرون بـ"اللامنطقية"، رغم أنها سلوكيات طبيعية وصحية جداً من الناحية النفسية أن نمر بها، فدعونا نتعرف ونفهم معاً حقيقة الأمر.
1. الشعور بالتيه:
كثيراً ما نمر بهذا الشعور، وذلك عندما تحدث فترات انتقالية كبيرة في حياتنا كانتهاء الثانوية العامة ودخول الجامعة وحيرة اختيار التخصص المناسب، أو التخرج وبدء حياة العمل، وربما السفر للعمل أو الحياة في دولة أخرى مختلفة خاصة إن لم يكن هناك عقد عمل مسبق، الإقبال على الزواج واختيار الشريك المناسب، انهيار حلمك وهدفك الذي جهدت سعياً إليه واضطرارك للبدء من جديد، كلها مراحل انتقالية تحدث في حياتنا ونشعر حينها بالتيه الشديد الذي يقلب كياننا رأساً على عقب، ويتبادر للذهن الحيرة وألف سؤال بلا جواب، وملايين الاحتمالات والمفاجآت غير المتوقعة، وتطغى علينا الرؤية الضبابية حول القادم من حياتنا فلا نعلم ما هو، وهذا شيء طبيعي جداً أن يحدث لك وأن تشعر به، بل إنه علامة تدل على الصحة النفسية لديك وأن بشريتك تعمل بشكل ممتاز فاطمئن واخفض إصبع الاتهام الموجه لنفسك بأنك غير طبيعي، وهدئ من روعك واعلم أنك لست الوحيد الذي يحدث معه ذلك، بل كل البشر يحدث معهم ذلك، وهو أمر جيد للغاية لأنه طبيعي أن يحدث في مثل تلك الفترات والمواقف، بل إنه من غير الصحي أو المناسب أن تشعر أنك في قمة الانسجام والتوازن، وأنك تعلم جيداً كل الخطوات القادمة التي ستحدث في حياتك بالتفصيل، فهذا مناقض لتكوينك البشري ولسنة الكون أيضاً في خفاء الغيب عن البشر كي يستمر سعيهم وحرصهم على بذل الجهد واعتناق الأمل بأن الغد أفضل ويصير السعي إليه أكبر.
2. توترت.. فأخطأت:
هل جربت يوماً أن يلومك الآخرون على خطئك نتيجة توترك، أو أنك لم تقم بالتصرف الصحيح في موقف ما نتيجة ضغط مفاجئ جعلك تتوتر فتخطئ، ولكن المجتمع ليس لديه الحق أبداً في هذه الملامة، لأنه من الطبيعي أن يكون سلوكنا غير متوقع عندما نمر بموقف ضاغط أو مفاجئ، وهذا ما يميزنا كوننا بشراً وإلا صرنا "روبوتات" يتوقع كل سلوكياتها وردات فعلها تجاه كل المواقف وتحت أي ظروف.
3. الرغبة في العزلة:
حينما تشعر بالإجهاد النفسي أو البدني أو الذهني تحتاج إلى عزلة عن كل شيء كي تعيد شحن طاقتك لتستطيع الاستمرار في الحياة، فهذا حق طبيعي لك وشعور صحي، وليس معناه أنك مصاب بالاكتئاب كما يسارع البعض بادعاء هذا التصنيف عنك والانخراط في سيل النصائح الذهبية للقضاء عليه، بل إنك لو كنت تتسم بـ"الانعزالية الاجتماعية" منذ البداية فلا مشكلة من الأساس، وأيضاً إن كنت شخصا تتصف بأنك "مفرط الاجتماعية" وشعرت أنك تحتاج إلى أن تبتعد مؤقتاً عن كل الناس وتعيد تقييم حساباتك وتأخذ وقتاً مع نفسك، فهذه أيضاً سمة طبيعية وصحية بل ومن حقك أن تستقطع هذا الوقت لنفسك من حين لآخر، ولا تسمح لأحد كائناً مَن كان أن يلومك أو يتهمك على هذا التصرف أو "الاختفاء المؤقت".
4. تغيير الأصدقاء:
من حين لآخر وجدت أني أميل إلى تغيير أصدقائي، وحدث ذلك في مراحل مختلفة من حياتي، ولم يدم لي صديق ثابت في كل المراحل إلا واحداً فقط وكانت إحدى قريباتي لكنها تحتل مكانة الصديقة المميزة بقلبي، ومؤخراً بعدما شعرت أني وصلت لمؤشر جيد من النضج تفاجأت بميولي تجاه تغيير قائمة أصدقائي من جديد، كنت أتفهم وأتقبل الأمر وأعلم أنه صحي، ولكن تملَّكَني الشعور بالرهبة بعض الشيء، وبالرجوع للعلم وتفسير ذلك وجدت أنه صحي وطبيعي جداً ودلالة على النضج والوعي أيضاً، وأنه ليس "قلة أصل" أو "ندالة" أو غير ذلك من الأوصاف التي يدعيها البعض، لأن التغيير الشخصي لا بد أن يتبعه تغيير في دائرة أصدقائك المقربة بشكلها ونوعها، بل وأن تتغير طبيعة أصدقائك، واختيارهم من ذوي شخصيات مختلفة تماماً عن السابقين في حياتك، فهذا أمر صحي للغاية فاطمئن واستمتع بذلك، أنت على الطريق الصحيح، وكما أن لكل قاعدة استثناء، فهنا يصبح استمرار صديق معك في كل المراحل هو الاستثناء لهذه القاعدة وأمراً نادراً جداً حدوثه.
5. أجِّل عمل اليوم إلى الغد:
ربما تُفاجأ وتستغرب من هذه العبارة والتي هي عكس العبارة المشهورة "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، ولكن واقع بشريتنا أصدق من العبارة، بلا شك نضع قائمة المهام اليومية المثالية والتي لا ننجز منها سوى نصفها فقط ويتم ترحيل ما تبقى للغد، وحينها تدرك أنك تبالغ في طاقتك وتتوهم أنك تستطيع أن تفعل الكثير من المهام في نفس اليوم، ولكن الحقيقة أنك لو أنجزت نصفها فقط مع الاستمرار اليومي على ذلك، أفضل بكثير من إنجازها التام ليوم واحد تشعر في آخره بالإجهاد الشديد والملل وانقطاع عن العمل بعده لأيام طوال، فخذ نفَساً عميقاً يا صديقي وأجِّل عمل اليوم إلى الغد بكل هدوء وسلام، والخبر السعيد أنه مؤشر صحي يدل على أنك "بشر" ولست خارقاً للعادة.
6. طلب الدعم:
خلقَنا اللهُ سبحانه لنحتاج إلى بعضنا ولكي يكمل كلٌّ منا الآخر، فقال "وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً"، ولم يكن ذلك يوماً عيباً أو اتهاماً بالنقص؛ لأن الضعف شيء فطري تماماً وجزء من تكويننا، كما قال الله سبحانه "وخُلق الإنسانُ ضعيفاً"؛ إذاً فطلبك للدعم من وقت لآخر سواء كان دعما مادياً، معنوياً، عاطفياً، وجدانياً هو أمر فطري طبيعي للغاية، بل إن طلبك للدعم والحب لهو علامة قوة واستقرار نفسي كبير جداً، كما أن طلبك للتقدير من شخص تستشعر منه أنه لا يقدرك بشكل كافٍ ومناسب فهو دليل كبير على تقديرك لذاتك، وأنك تشعر بالاستحقاق، أي أنك تستحق الأفضل دوماً من كل شيء وشخص، فلا تشعر باستحياء واطلُب الدعم بكل قوة وراحة.
7. الرغبة فى الحب :
كثيراً ما نسمع أصدقاءنا العزاب يرددون عبارة "عايز أتجوز دلوقتي حالاً"، وذلك بعدما نشاهد فيلماً عاطفياً يملؤه الحب، أو حينما يقص أحدهم قصة زواجه الرائعة وكيف يتعامل الزوجان بمحبة مع بعضهم البعض، أو عندما نقرأ سيرة النبي وكيفية حبه الكبير للسيدة خديجة رضي الله عنها ووفاءه لها، فالاحتياج للحب أمر فطري طبيعي للغاية، وطبيعي أيضاً أن تطلب ذلك وتعبر عنه من وقت لآخر، بل إن احتياجك "لشريك حياة" مؤشر دال على الصحة العاطفية لديك، وليس العكس مما قد يتوهمه البعض، وذلك لأنك تفتقد ذلك الجزء من حياتك، فعبِّر عنه بأريحية تامة ولا تخجل من ذلك أبداً، ولكن المهم هو الحذر الحذر من أن تشبع تلك الرغبة أو هذا الاحتياج بأي علاقة عابرة، أو تجعل دافعك للارتباط هو مجرد ملء فراغ أو "سد خانة" كما يقولون، لأنك ستصبح كشخص جائع التهم أول طعامٍ قابله كي يسد به جوعه فقط، دون أن يتأكد إن كان مناسباً له أم لا، أو له صلاحيته لم تنتهِ بعد أم لا، فيصير وبالاً عليه ويسمم بدنه، وهكذا العلاقات أيضاً منها السام الذي يهدد وجودنا وبقاءنا بل وصحتنا النفسية أيضاً، فانتبه ولا ترضَ بأي شريك لمجرد ملء فراغ وسد احتياج.
وختاماً..
وصيتي لك عزيزي أن تنتبه جيداً لمشاعرك، وكن على وعي بذاتك وما يخبرك به جسدك من مؤشرات، استقبلها جيداً، وتلقفها بعناية، وأنصت لذاتك بحرص، فتواصلك الجيد مع نفسك يساعدك على تفهمها وتقبلها ومن ثم العمل على إصلاحها والاستجابة لها بما يناسبها، ولا يضيرك إن تفهمك المجتمع أم لا، وسواء تقبل تلك المشاعر أو اعتبرها غير منطقية، احرص على الرجوع للمختصين وسؤالهم إن لم تكن تعرف كيف تضبط بوصلة مشاعرك نحو الاتجاه الصحيح وتفسر الإشارات التي ترسلها لك، ومن ثم تستمع بالتواصل مع ذاتك والاستمرار بحياتك بشكل صحي وطبيعي، ودمت بكل خيرٍ عزيزي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.