من مخدرات الضمير "انتظار نتائج تربية النفس"، يفشل الإنسان في إصلاح عيبه فيحكم على نفسه بالسوء، ولم يدرِ المسكين أنه مُتَعبد بالمحاولة ما بقي حياً، وأن هداية النفس رزق، والأرزاق قد تأتي من غير مظنتها، فحرِّك يديك واستمطر الرحمات، فهكذا تأتي الأرزاق.
تمر علينا أوقات فتور، يخمد فيها نشاطنا وتقل حيويتنا، نسير سير السلحفاة تجاه أهدافنا، ويتعكر صفو يومنا الذي تعودنا أن ننجز فيه عشرات المهام ولا نستسلم للنوم إلا منتصرين، ولكن في وقت الفتور يصبح مزاجنا متقلباً مئة وثمانين درجة، لا نعرف ما أصابنا، ولِمَ فترت عزيمتنا، ولا نستطيع تقبل هذا الوضع بسلاسة، فيضيق صدرنا أكثر، وتزداد تقلبات مزاجنا أكثر وأكثر، نتساءل ونشكو للمقربين، آملين أن نجد حلاً شافياً لتلك العلة، تتوالى الاقتراحات هنا وهناك، ونجزم أننا حاولنا وسعينا وقمنا بتجربتها جميعاً ولم نجد تلك الروح السابقة التي تدفعنا للعمل بحب، كل يوم وليلة نعاهد على البدء من جديد، والمحاولة بجدية أكبر من اليوم الذي سبقه، ولكن يستمر الحال لفترة قد تطول أو تقصر حسب كل فرد وما يعايشه، وربما تختلف مع ذات الفرد من فترة لأخرى حسب تغير الظروف المعيشية أو التجارب التي مرّ بها.
إذن ما الذي يحدث؟!
دعونا نحاول فهم الأمر معاً، ونتفق في البداية أننا بشر، وعلينا أن نتقبل بشريتنا التي تقتضي حتماً ضعفنا حيناً وقوتنا حيناً، لسنا "روبوتات" جامدة تعمل دون كلل، بل حتى تلك الآلات تتعطل وتحتاج صيانة دورية.
إذن فترات ضعفنا ما هي إلا إشارة تخبرنا "انتبه.. أنت تحتاج إلى الصيانة"، ضع في عين اعتبارك ذلك الأمر، حاول في أوقات نشاطك أن تفهم ما الأمور التي تحفزك وتساعدك على تصفية ذهنك، ضع قائمةً ببعض الأنشطة هذه في أوقات نشاطك وصفاء ذهنك، لأنك ستستعملها وقت فتورك، وتقبل أقل مجهود تبذله في تلك الفترة، توقف عن جلد ذاتك ومقارنتها بما سبقها من نشاط، وكيف أنك لم تعد كالسابق، ولم تعد تنجز، وماذا أصابك، وتدخل رأسك في دوامة من الأسئلة الاجترارية اللانهائية، التي لن تغني ولن تسمن من جوع، ولن تفيد شيئاً سوى زيادة كدرك وإرهاق روحك وجلدك لذاتك.
تقبّل أنك بشر، تقبل أنك تضعف أحياناً ولست "سوبر مان"، ولستِ أيضاً "سترونج وومان"، أنت كما قال فيك الرحمن "وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعيفَاً"، هذا يعطينا رسالة مفادها "اهدأ قليلاً على نفسك"، وتقبّل أقلَّ القليل من جُهدك، مستمراً فيه بالقدر الذي تستطيعه، ومحافظاً على سعيك حتى تصل فيه لنشاطك ثانية برفق وهدوء، وليس معنى ضعف بشريتنا أن نركن ونعتذر بذاك الضعف، نحن علينا التوكل بجد وعزم، وألا نتواكل ونركن لكل عقبة تقابلنا فنصير جسداً خواراً ضيع نفسه ولم يعمل لما خلق له.
نتعبد بالمحاولة ما حيينا
انتشرت في الآونة الأخيرة مقولة "حتمية السعي لا تقتضى حتمية الوصول"، وهذا قد فسره بعض الناس بطريقة خاطئة، دفعتهم للتوقف عن السعي بالكلية بناء على إسقاطات شخصية لحياتهم وظروفهم، وحينما نقول "عليك السعي وليس بالضرورة إدراك النتائج"، فالمقصود هنا في الدنيا ليس حتمياً أن ترى نتائج كل ما تفعل وتأخذ مقابلاً لكل عمل من البشر، ولكن الحسابات مع رب البشر مختلفة تماماً، فالله يقول في كتابه: "وأنْ ليْسَ للإنسانِ إلا ما سَعَى وأنَّ سعيَهُ سوف يُرَى ثُمَّ يُجزَاهُ الجزاءَ الأوفَى"، والآيات بيِّنات لنفسها، ومع ذلك نقول إن كل ما تفعله ستجده وستُحاسب عليه ثواباً أو عقاباً، وأن الله مطلع على كل حركاتك وسكناتك، وليس هذا فقط، بل سيجازيك جزاء ليس كأي جزاء، وإنما وصفه بالأوفى، يعني ستنال مقابل عملك أجزل العطاء من رب السماء.
"ولا يقطعون وادياً إلا كُتب لهم"
يعدنا الله أن حتى مجرد قطع الطريق وعبور الوادي يُكتب عند الله، مجرد السعي والسير يكتب ويراه ويعلمه، فإن ظلمنا البشر ولم يجازونا على فعلنا في الدنيا فرب البشر موجود، يجزل العطاء بأحسن قدر ممكن.
إذن أنا وأنت، ونحن جميعاً نتعبد لله بالمحاولة ما حيينا، حين نتعثر وحين ننتكس، حين يصيبنا اليأس والحزن، حين تفتك بنا الهموم، وأيضاً حين نعوض ونسعد، نصبر ونجبر، ونصل لمبتغانا، في كل حين علينا المحاولة وليس إدراك النتيجة، والنتائج ليست نهاية إنما مجرد محطة عبور نصل إليها ونسعد بها إن كانت موافقة لما نريد، ونصبر وربما نعيش فترة حزننا وألمنا ثم ننهض ونكمل طريقنا محاولين من جديد، فالوصول محطة وليس نهاية الطريق.
تذكّر دائماً أن:
محاولاتك كلها يراها الخبير البصير، ولا شيء يذهب سدى، وخيراً تعمل أجراً تلقى، وأن الآخرة دائماً خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى، فهو فقط لن يعطيك وكفى وإنما حد الرضا.
إن كنت تحيا بكل تلك المعاني، واضعاً أهدافاً حقيقية أخروية مرتبطة بصلة وثيقة بالأهداف الدنيوية، ممهداً جسراً للعبور بين الدنيا والآخرة، مدركاً حقيقتك البشرية، سيرتاح عقلك دائم التفكير، وستهدأ نفسك كثيرة الاضطراب، ستأخذ الإشارات التي يحذرك بها جسدك في عين الاعتبار، وتكون أكثر تركيزاً في طريقك وهدفك، وأفضل تواصلاً مع ذاتك، سترتاح حينما تتعب، لكنك أبداً لن تستسلم، وستدرك أن القوة الحقيقية للنجاح ليست في عدم التعثر، وإنما في القدرة على النهوض كلما تعثرت، وأنك تتعبد بالمحاولة ما حييت، وحينها تصل لحياة أكثر رضا وتوازناً وطمأنينة، فما أسعدك!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.