منذ 14 عاماً، حين كنت في نصف عمري الآن، جلست أتخيل كيف ستمضي أيامي وسنواتي القادمة. ورقة وقلم وبالٌ رائق حينها، لم أحتج أكثر من ذلك لأخطط لمستقبلي، حتى أصل لما أريده في عمر العشرين وفي الثلاثين، ثم في الخمسين.
يوم ممطر في شتاء عام 2006، وكل الأجواء مهيأة لسعادة كبيرة بتساقط الأمطار، تخيل معي المشهد الآن، فتى في الرابعة عشرة، يدون في ورقته الصغيرة الباقي من عمره، ويحدد ما سيصل إليه في كل عام من حياته، يرسم أهدافه الكبيرة بعناية.
أحداث هائلة وتجارب غريبة، لم يحسب لها الفتى حساباً، هكذا الفتيان دائماً لا يهتمون بالحسابات. تتغير الظروف والمعطيات، ليواجه الفتى مستقبلاً غير الذي كتبه في ورقته. الحياة تعاش، يا هذا، لا تكتب على ورقة صغيرة.
تنتظر أن أخبرك أن الفتى لم يحقق أهدافه وتصوراته للمستقبل، لما عاشه من أحداث وتجارب، غيرته وصنعته، الأمر واضح لا يحتاج لشرح، فتى صغير يكتب أحلامه، لم تمنحه الحياة القدر الكافي من التوفيق، ليكتب الآن أنه في الرابعة عشرة كتب أحلامه وأهدافه على ورقة صغيرة في يوم ممطر.
لكن في الثامنة والعشرين حققها كلها، لينبعث صوت تصفيق الحضور هديراً غير متوقف.
المفاجأة أن القصة لم تحدث، والفتى لم يكتب شيئاً حينها، كان من السذاجة أن يكتب أحلامه في الرابعة عشرة، ويترك متعة تساقط الأمطار عليه، كما لم يكن هناك أمطار، لكن بالتأكيد كان هنالك فتى، مرت عليه السنون وما زال كما هو يكتب.
في غالب الأحيان أستمع لشيء ما أثناء الكتابة، لكن الأمر مختلف، أكتب رحلتي في 28 عاماً، تذكرت إحدى الرحلات المدرسية في المرحلة الإعدادية، استعرت "موبايلاً" من أحدهم كي تكتمل السعادة، ولزيادة مقدار روشنة طالب صغير، يضع الكثير من الجيل الرديء على شعره، أخذ الجميع أماكنهم، وبدأ السائق في الاستعداد للانطلاق نحو مدينة الملاهي. قررت الاستماع لإحدى الأغاني على هاتفي الذي ليس هاتفي، لم أختر أغنية معينة، تركت الحرية لمشغل الموسيقى، انتظرت اختياره بلهفة، موسيقى هادئة في البداية ثم ينطلق الفنان، "يا خسارة الرحلة، اللي خدتني واللي ندتني واللي يا ريتني ما كنت مشتها، رحلة ألم.. رحلة ندم". صعقت حينها، أو لم أهتم إطلاقاً، لا أتذكر. مصطفى كامل أراد أن يخبرني بحقيقة الرحلة حينها إلى مدينة الملاهي، أم كان ينظر إلى أبعد من ذلك؟
قبل أن أكتب، يقترح علي الفنان مصطفى كامل أن أكتب خواطري على أنغام أغنيته "يا خسارة الرحلة"، لكن أقاوم وأكتب على موسيقى وكلمات النجوم "دقدق وباسم فانكي" وهما يصدحان بنشاز مميز: "مشينا صح مش عاجب.. والغلط مش سكتنا". ربما هذا يناسب رحلة إلى مدينة الألعاب.
تنتظر الآن أن أخبرك أن قصة الرحلة المدرسية أيضاً لم تحدث؟، المفاجأة أنها حدثت ونصيحتي لك، لا تأمن لفتى ما زال في الرابعة عشرة حتى الآن.
كيف يراك الناس؟
سؤال ربما يضيع عمرك وعمري للبحث عن إجابة ترضي غرورك وتصوراتك الصادقة والكاذبة عن نفسك. في كل الأحوال، لا يرى الناس حقيقتك، ينقسمون حولك وعليك في كل موقف، يراك بعضهم بطل الأبطال، اللي ضحى لأجل بلده لأجل ما تشوف النهار. بينما أنت تعرف أن ليس في الأمر ثمة بطولة، غير أنها لم تر النهار، لكنك تعلم أن القصة دائماً تحتاج لأبطال، وفريق ينظر إليك باعتبارك "عيل ضيع مستقبله في كلام فاضي"، مستعينين ببعض الحسابات الضيقة. لكني أخبرتك أن الفتيان لا يهتمون بالحسابات كثيراً، بين فريقين تقف، بين البطولة الزائفة والضياع، لكني أعلم الحقيقة بعيداً عن كل ذلك، لا بطولة ولا ضياع، فقط رجل اختار لنفسه، أن يقول كلمته ويرحل.
شايف نفسك فين بعد 5 سنين؟
سؤال يطرح طوال الوقت، إما من مسؤول في شركة، أو من داخلك، من صديق في جلسة مرح. في زمان كالذي نحياه، ينقلب الكوكب كل حين بين الأوبئة والحروب والثورات. وفي دولة مثل مصر، لا يأمن فيها الشاب على عقله، ولا يعرف حاكمها -أياً كان- كيف تسير البلاد تحت قيادته. في الغالب يعرف الحاكم أنها "ماشية بالحب".
دولة لا تعرف الطريقة التي تموت بها في شبابك، لكنك تعرف أنك ستموت في القريب العاجل، وأن كل الطرق تؤدي إلى مشرحة زينهم. في دولة مثل مصر، لو سألت قرابة 90% من سكانها، عن كيف سيكمل الشهر ببضع ورقات من فئة المائة جنيه في محفظته، لنظر إلى السماء وأشار للأعلى "ربك موجود.. محدش بيبات من غير عشا". رغم أن الوقح الزاهد يعلم جيداً أن هناك من ينام بدون عشاء.
في دولة مثل مصر لا يأمن على نفسه من الموت إلا الأموات، ولا يأمن على نفسه من السجن إلا المساجين. في مصر تهرب إما إلى القبر أو الغربة، في بلد مثل مصر، من السذاجة والعته بداية طرح هذا السؤال، حتى لو كانت المدة 5أيام وليست 5 سنين، لذلك إجابتي لمن يسألني شايف نفسك فين بعد 5 سنين، هي "مش شايفك إنت أساساً".
يطاردني عبدالرحمن الأبنودي وعمته يمنة كل يوم، يخبرني بالحقيقة، "والله شبت يا عبدالرحمن"، على الفور أرد عليه "لا يا حبيبي مش أنا"، أحاول إقناعه أني مازلت في الرابعة عشرة، يصر هو على رأيه "عجزت ياواد؟. مصرع ميتى وكيف؟، عاد اللي يعجز في بلادها غير اللي يعجز ضيف".
افتح له ألبوم صوري، ليرى أن الأرقام كاذبة، التاريخ يزور، فما بالك بتاريخ شاب قروي في أبعد نقطة بالجيزة عن القاهرة.
على كلٍ، تصر وزارة الداخلية وسجلها المدني، أنني اليوم أتممت عامي الثامن والعشرين، لكنها كثيراً ما قالت عني الأكاذيب، فلماذا تصدق الآن ولماذا يصدقها الأبنودي، الذي عاش أغلب عمره يكذبها، عذراً للسيد الوزير ضف عمري لسجل الأكاذيب في حق الفتى الصغير.
بعد منتصف الليلة المتمة لعامي الثامن والعشرين، يرن هاتفي، صديق أراد أن يسبق في تهنئتي، أو حبيبة غير موجودة من الأساس، كلها توقعات خائبة.
يحدثني أستاذي عن المستقبل الذي يراني فيه، أثق في نظرته لكني لا أثق في الكوكب وتقلباته، أخبره أني سأحاول جاهداً من أجل ذلك، بينما الماضي والحاضر ينظران لي بسخرية "كفي نفسك يا شبح". بين الواقع والمأمول تضيع أعمارنا، لذلك قررت منذ فترة، أن أعيش اللحظة وأحاول إسعاد نفسي، وليس إسعاد يونس بالتأكيد، وإسعاد من حولي قدر المستطاع، الذي أراه أكبر مما نتخيل جميعاً.
"قدمت ضحك.. كتير" هكذا اختصر طلعت زكريا رحلته، أتوقف لأرى ما قدمت وما حققت، لكنني أتذكر سريعاً، أن أهم ما يقدمه الإنسان لنفسه والإنسانية نفسها، أن يبقى إنساناً، لذلك أعتقد أني نجحت في الاختبار حتى الآن، حتى لو خسرت فرصاً كثيرة، ومحطات لم أصل إليها بعد، لكني وبصدق كسبت نفسي وراض تمام الرضا بتلك الغنيمة من الحياة.
لماذا أكتب؟
دعني أقلب الطاولة عليك لكن برفق، ولماذا تقرأ أنت؟، لا أقصد أن أقول لك إني أكتب لتقرأ، ولكني ربما لا أملك إجابة محددة لسؤالك، ربما أكتب تلك الكلمات لأقول إن حقيقة الأمر بعد هذه الرحلة هي: "كبرت أنا وهذا الطفل لم يكبر".
في عالم متسارع الأحداث، متصارع الأطراف، متشابك الأفكار، تخبرك الصورة والصوت بما تريد في ثوان، من الصعب على أحد سكان العالم، أن يكمل قراءة هذا النص، لأسباب عديدة، ولكن بما أنك تقرأ هذا السطر، فأعلم أنك كده وصلت، وأعلم أني أحبك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.