كشفت أزمة فيروس كورونا عجز الأنظمة الصحية عن التعامل مع الوباء. وساهم النمو المتزايد في عدد السكان وسهولة السفر بين جميع دول الكوكب في انتشار الفيروس بأكثر من 200 دولة خلال أسابيع. فهل تساعد برامج مراقبة انتشار الوباء في عودة الحياة إلى طبيعتها أم أننا نفرّط في خصوصياتنا؟
وحتى هذه اللحظة يبقى السؤال الرئيسي: كيف نوقف انتشار الفيروس؟
بالنسبة للحكومات، كان عليها الاختيار بين الصحة والاقتصاد؛ إما تعطيل الاقتصاد وفرض حظر كامل على مستوى البلاد لمنع انتشار فيروس كوفيد-19، وإما مواصلة العمل بالشكل المعتاد والمخاطرة بإصابة الملايين.
اختارت معظم الدول الحل الأول.
ولكن لا شك في أن البشرية سوف تتغلب بنهاية المطاف على فيروس كورونا، رغم أن حياتنا لن تعود أبداً إلى سابق عهدها.
وفي أعقاب الأزمة، بعد الوفيات المأساوية والركود الاقتصادي والصدمات التي نتعرض لها يوماً بعد يوم، سوف تواجه الحكومات سؤالاً جديداً: كيف نوقف الوباء التالي؟
عندها ستكون الخيارات بين: الصحة والخصوصية.
برامج مراقبة انتشار الوباء
طوَّرت البشرية بالفعل أدوات يمكنها المساعدة في مكافحة انتشار أمراض مثل كوفيد-19:
- الهواتف الذكية
- إنترنت الأشياء
- الأجهزة الذكية القابلة للارتداء (مثل الساعات الذكية)
- كاميرات المراقبة المجهزة بخوارزميات الذكاء الصناعي
وغيرها من التقنيات المتقدمة التي طُورت على مدار العقد الماضي في التتبع الدقيق لموقع كل شخص، وعلاماته الحيوية، وحالته الصحية.
ويمكن استخدام تلك البيانات في تتبع التجمعات البشرية، واكتشاف من قد يكون مصاباً بالعدوى من مريض آخر، وتحذير المواطنين من الإصابات القريبة، وتحديد أولويات إجراء الفحوصات والحصول على الرعاية، وإدارة الحجر الصحي محلياً، إلى جانب إجراءات أخرى.
بمساعدة التقنيات الحديثة، سوف تتمكن الحكومات من التحكم في انتشار الأمراض المعدية دون الحاجة لإغلاق اقتصادها بالكامل وإبقاء الجميع في منازلهم.
هناك عديد من الدول بالفعل مررت قوانين تخفف من صرامة قواعد احترام الخصوصية، لكي تتيح التعاون بين الوكالات الحكومية والشركات التقنية في مكافحة فيروس كوفيد-19.
ولكن قدرات التقنيات الحديثة قد تتجاوز ذلك، ويمكن استغلالها لأغراض خبيثة أيضاً.
وبحسب ما نشره موقع The Next Web، ففي دولٍ مثل الصين، تُستخدم بالفعل أحدث التقنيات من أجل تأسيس نظام مراقبة شامل بمساعدة الشركات التقنية الكبرى.
ولا تزال الحكومات الغربية مترددة حتى الآن في أن تحذو حذوها (برغم عدم تردد الشركات التقنية العملاقة في هذا الشأن)، وكانت أصوات المدافعين عن الخصوصية عالية ومسموعة بما يكفي لإخضاع "الأخ الكبير" الرقمي بدرجة ما.
ومع جائحة فيروس كورونا، ارتفعت أصوات المدافعين عن الخصوصية مجدداً، محذرين من الحلول التي قد تنتهك خصوصية المواطنين.
ولكن مع اعتبار صحة المواطنين أولوية أهم، أصبح نظام الرقابة الرقمي مبرراً وحجج الحفاظ على الخصوصية أقل إقناعاً.
ومن أجل المساعدة في مواجهة هذه المشكلة، اقترحت مجموعة من علماء الحاسب الآلي بجامعة بوسطن حلاً يمكنه المساعدة في تتبُّع الأمراض المعدية دون الحاجة إلى استخدام أدوات تنتهك الخصوصية.
الخيار التقليدي المنتهك للخصوصية
يكمن الحل السهل والتقليدي لحل مشكلة تتبع الأمراض المعدية في استخدام بنية الخوادم التقليدية المستخدمة بمعظم خدمات وتطبيقات الإنترنت؛ وذلك من خلال تثبيت تطبيق على هواتف المستخدمين يسجل بانتظامٍ موقع المستخدم ويرسل المعلومات إلى مركز بيانات لتخزينها.
ويمكن دمج بيانات الموقع مع معلومات أخرى مثل درجة حرارة الجسم وضغط الدم وغيرهما من العلامات الحيوية التي يمكن الحصول عليها من الأجهزة الطبية القابلة للارتداء.
وعندما يُصاب شخص بفيروس كوفيد-19 أو غيره من الأمراض المعدية، يراجع الخادم قاعدة بيانات للكشف عن كل المستخدمين الذين خالطوه أو كانوا على مقربة من الشخص المصاب.
وبذلك يتمكن التطبيق من إخطار هؤلاء الأشخاص أو توجيههم للالتزام بالحجر الصحي الذاتي، ووضعهم في أولوية قوائم الفحص.
هذا النوع من تتبع المخالطين مهم وحيوي لمنع انتشار الفيروسات.
هناك عديد من المزايا الأخرى لمثل هذا النظام، الذي يمكن أن نُطلق عليه "تطبيق تتبع الصحة".
على سبيل المثال، يمكن إرسال البيانات التي يحصل عليها التطبيق إلى خوارزميات التعلم الآلي؛ من أجل تطوير نماذج تنبؤ بانتشار الفيروس بناء على أنماط الحركة.
ويمكنه كذلك تنبيه المستخدمين؛ من أجل تجنب المناطق التي تظهر فيها إصابات بشكل متكرر. أقدمت بعض الشركات بالفعل على تطوير حلول تقنية تعمل بالذكاء الصناعي تتنبأ بانتشار فيروس كوفيد-19 بمستوى ملحوظ من الدقة.
عديد من الشركات التقنية الكبرى تتتبع مواقع المستخدمين بالفعل، وأحياناً دون علمهم، لأغراض تجارية وإعلانية.
ولكن يمكنك تجنب ذلك عن طريق تجنب تثبيت تطبيقات التتبع واستخدام بدائل حريصة على خصوصية مستخدميها، أو استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة أو أي أدوات أخرى تخفي موقعك.
عدم منح تلك الخدمات بيانات ومعلومات موقعك قد يحرمك من بعض الخصائص المفيدة والمريحة لتلك التطبيقات أو قد يُجبرك على الدفع من أجل الحصول على الخدمات؛ إنه اختيار واعِ من المستخدم بين الخصوصية من جهة وسهولة الاستخدام أو التوفير من جهة أخرى.
ولكن عندما يُصبح تثبيت تطبيق تتبُّع الصحة شرعياً، ستكون الخيارات أمامك إما الحفاظ على خصوصيتك على حساب خرق القانون وإما الالتزام بالقانون على حساب خصوصيتك.
ومثلما بإمكان شرطي المرور إيقافك وطلب رؤية رخصة القيادة، قد توقفك الشرطة الصحية للتحقق من تفعيل ونشاط تطبيق تتبع الصحة لديك وأن تسجل بيانات موقعك.
خرق القانون في هذه الحالة قد يكلفك دفع غرامة أو السجن بتهمة تهديد الصحة العامة.
البدائل المناسبة للخصوصية
في ورقة بحثية بعنوان "اكتشاف التجمعات المجهولة: تسخير الخصوصية لترويض فيروس كورونا"، أشار مجموعة من علماء الحاسب الآلي في جامعة بوسطن إلى أننا لا نحتاج انتهاك خصوصية الأفراد لحمايتهم من الأمراض المعدية.
وقدمت الورقة البحثية صورة من "مخطط بسيط للغاية يعمل على تقديم تنبيهات دقيقة وفي الوقت المناسب للمستخدمين الذين كانوا قريبين من شخص مصاب".
وكتب الباحثون: "الغرض من هذا العمل إظهار إمكانية إخطار الأشخاص فوراً وبمستوى عالٍ من الدقة والموثوقية باحتمالية اختلاطهم سابقاً أو حالياً بشخص أو سطح مصاب، بأقل قدر ممكن من انتهاك خصوصيتهم ومن دون الاحتفاظ بأي بيانات عن الأفراد المصابين أو مواقعهم".
ويعتمد أحد خيارات برامج مراقبة انتشار الوباء المتوافق مع الخصوصية على تطبيق هاتفي وخادم بيانات.
يعمل التطبيق الهاتفي على توليد رمز عشوائي فريد مجهول الهوية على فترات منتظمة، كل دقيقة مثلاً.
وبدلاً من إرسال الرمز إلى خادم البيانات، يخزنه التطبيق على الجهاز ويبثّه في الوقت نفسه من خلال البلوتوث.
وتستقبل الأجهزة القريبة داخل نطاق البلوتوث ومُثبّت عليها تطبيق تتبُّع الصحة المتوافق مع الخصوصية تلك الرموز وتخزّنها، لتعمل تلك الرموز بمثابة قاعدة البيانات.
لا تحتوي الرموز على أي معلومات عن الأجهزة أو الموقع أو أي معلومات تحدد شخصية صاحبها، لذا لن تكون هناك مخاطر تُذكر بشأن الخصوصية من وجود تخزين تلك الرموز على أجهزة أخرى.
كما أن الرموز صغيرة الحجم جداً، لكي يتمكن التطبيق من تخزين عشرات الملايين من الرموز من دون مواجهة أي قيود أو مشكلات خاصة بمساحة التخزين على الأجهزة.
وعندما تظهر إصابة شخص بفيروس كوفيد-19 أو غيره من الأمراض المعدية، تؤكد السلطات الصحية إصابته، ويرسل التطبيق كل الرموز الخاصة بجهازه إلى خادم التخزين الخاص بالتطبيق، من دون أي معلومات عن الجهاز أو الموقع أو المعلومات الشخصية في هذه الرموز، وبذلك لا تحمل خوادم التخزين أي معلومات حساسة.
وعلاوة على ذلك، لا توجد أي معلومات توضح ما إذا كان هناك رمزان خاصان بالمستخدم نفسه.
وذكرت الورقة البحثية: "عدم القدرة على ربط البيانات يضمن ألا تتتبع الخدمة بيانات الموقع وأنماط حركة المستخدمين، وتزيل من ثم أي مخاوف عن إمكانية تتبعُّ بيانات الموقع وربطها بشخص معين".
وبفضل الطبيعة المتوافقة مع الخصوصية للتطبيق، لن يعرف المستخدم توقيت أو موقع أو شخصية المصاب.
وبذلك يتمكن المستخدم من اتخاذ الإجراءات الضرورية، مثل استشارة الأطقم الطبية المختصة لمعرفة الخطوات التالية.
ويعترف الباحثون بأن هذا الحل ليس مثالياً، وكتبوا: "نؤكد أن الاقتراب من شخص أو سطح مصاب ليس مؤشراً مؤكداً، على انتقال الأمراض؛ قد يقترب شخصان بعضهما من بعض دون انتقال الفيروس من أحدهما إلى الآخر، أو قد ينتقل الفيروس عبر الهواء بين شخصين كانا في المكان نفسه على فترات متباعدة. لذا، تهدف الأفكار المقترحة إلى أن تكون استكمالاً (وليس بديلاً) للتدابير الوقائية الفعالة مثل التباعد الجسدي/الاجتماعي".
الأمر الرائع حقاً في الحل المقترح من باحثي جامعة بوسطن هو مدى بساطة الفكرة وقابليتها للتطبيق.
يمكننا أن نتخيل تثبيت التطبيق على جهاز صغير قابل للارتداء، سوار معصم رقمي على سبيل المثال، مجهز بمساحة تخزين معقولة وخاصية بلوتوث يُباع بسعر منخفض.
لن يحتاج الجهاز في هذه الحالة حتى إلى اتصال بالإنترنت، ومن الممكن أن تُنقل بيانات الأشخاص المصابين عن طريق تطبيق منفصل في المستشفيات ومختبرات الفحص.
سوف يعزز ذلك من مستوى الحماية، ويمنع أي شخص من التلاعب بالبيانات وإغراق خوادم التطبيق بالبيانات الكاذبة.
خلال الأسبوع الماضي، أعلنت أبل وجوجل عن عملهما على تطبيق هاتفي لتتبع فيروس كوفيد-19، يشبه إلى حد كبير، ما اقترحه باحثو جامعة بوسطن.
ولكن ما زال البحث جارياً عن فكرة تعتمد أجهزة منفصلة من دون أي مكونات إضافية تقلل من مساحة الانتهاك المحتمل لخصوصية المستخدمين.