بينما نستهلك كثيراً من المستحضرات الكيميائية لتعقيم المشتريات وأسطح الأجهزة في منازلنا المصنوعة من الفولاذ، إلا أن علاقة كورونا والنحاس قد تسهل عملية القضاء على الفيروس في أسرع وقت ممكن.
فالنحاس الذي لم يعد مستهلكاً بصورة كبيرة قاتل طبيعي للبكتيريا والجراثيم.
هو مادة تعقم نفسها بنفسها، والأغرب من ذلك أنها معلومة اكتشفها الفراعنة قبل 3700 سنة، ووظفوها في علاجاتهم الطبية.
كيف يمكن للفراعنة أن يكتشفوا خواص مادة كيميائية كالنحاس، وتأثيرها على الكائنات الحية الدقيقة التي لم يعلموا بوجودها أصلاً؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في البردية الطبية الأقدم في تاريخ البشرية.
تعرف هذه البردية ببردية سميث، نسبة لعالم المصريات الأمريكي إدوين سميث، الذي اشتراها من الأقصر بمصر في العام 1862.
تُعدّد البردية، التي كانت ربما دليلاً للجراحة العسكرية، 48 حالة من الإصابات والكسور والجروح والخلع والأورام.
كما توضح كل حالة نوع الإصابة وفحص المريض والتشخيص والعلاج.
يعود تاريخها إلى السلالات 16-17 من الفترة المتوسطة الثانية في مصر القديمة، أي تقريباً 1600 قبل الميلاد.
وتركز الغالبية العظمى من البردية على الصدمات والجراحة، مع أقسام قصيرة عن أمراض النساء ومستحضرات التجميل على الجانب الآخر.
إلا أن المؤرخ الأمريكي وعالم في المصريات جيمس هنري بريستد رجح أن هذه البردية مستندة لما توصل إليه إمحوتب، وهو مهندس معماري وكاهن كبير وطبيب المملكة القديمة 3000-2500 قبل الميلاد.
النحاس في زمن الفراعنة
حدد الفراعنة رمز عنخ، الذي يمثل الحياة الأبدية، للدلالة على النحاس في الهيروغليفية.
كما تشير البردية إلى استخدام أملاح النحاس إلى جانب أدوية أخرى كمضادات الحموضة والشبة، ومدرات البول، والمهدئات وغيرها.
كما توصي البردية باستخدام النحاس لتعقيم جروح الصدر ومياه الشرب.
بل إن أقدم أدوات جراحية معدنية في العالم وجدت في قبر الطبيب الملكي قار، الذي زامن الأسرة السادسة في مصر، والتي استمرت من حوالي 2350 إلى 2180 قبل الميلاد.
كانت تلك الأدوات مصنوعة من النحاس أيضاً.
حضارات أخرى استخدمت النحاس للوقاية من الأمراض
إلى جانب الفراعنة، استخدم الإغريق بودرة النحاس لعلاج الجروح والتهابات العيون.
وبالعودة لعام 1600 قبل الميلاد، تشير وثائق تاريخية إلى أن الصينيين استخدموا على سبيل المثال العملات المعدنية النحاسية كأدوية لعلاج آلام القلب والمعدة، وكذلك أمراض المثانة.
وكذلك الفينيقيون على سواحل البحر المتوسط، كانوا يضعون قطعاً نحاسية من سيوفهم في الجروح المفتوحة كي لا تلتهب.
ومنذ آلاف السنين، عرفت النساء أن أطفالهن لم يصابوا بالإسهال بشكل متكرر عندما شربوا من الأوعية النحاسية، ونقلوا هذه المعرفة إلى الأجيال اللاحقة.
كيف يحمي النحاس من الأمراض؟
بعد اكتشاف الجراثيم بالميكروسكوب في القرن التاسع عشر، واستخدام العلاجات المعتمدة على المضادات الحيوية، بدأ استخدام النحاس في المنتجات الاستهلاكية كنوع من الوقاية من الجراثيم وليس في العلاج نظراً لثمنه الغالي.
لذلك ينتشر استخدامه مثلاً في المراتب التي تروج على أنها مقاومة للبكتريا، كونها تقاوم ظهور أي حشرات أو جراثيم.
تتم عملية مقاومة النحاس للجراثيم كما يلي:
- يطلق النحاس أيونات (الجسيمات المشحونة كهربائياً) عند تواجد الميكروبات على سطحه، عن طريق اللمس أو العطس أو القيء على سطح النحاس.
- تمنع الأيونات تنفس الخلايا
- ثم تُحدِث ثقوباً في غشاء الخلية البكتيرية أو تعطل الطبقة الفيروسية
- أخيراً تدمير الحمض النووي والحمض النووي الريبي في الداخل
كورونا والنحاس، هل يحمي البشر منها؟
أفاد باحثون أن الفيروس التاجي الجديد الذي تسبب في جائحة COVID-19 يبقى على قيد الحياة لأيام على الزجاج والفولاذ المقاوم للصدأ، ولكنه يموت في غضون ساعات بعد هبوطه على النحاس.
وهذا ما أكده الباحث في الأحياء الدقيقة في جامعة ساوثامبتون البريطانية بيل كيفل لموقع مؤسسة Smithsonian.
كيفل درس التأثيرات المضادة للميكروبات من قبل النحاس لأكثر من عقدين. شاهد في مختبره كيف أن المعدن البسيط يقتل الجراثيم الواحدة تلو الأخرى.
بدأ دراساته بالبكتيريا المسببة لمرض المحاربين (نوع من التهاب الرئة) ثم تحول إلى التهابات قاتلة مقاومة للأدوية، مثل المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين (MRSA).
ثم اختبر الفيروسات التي تسببت في مخاوف صحية في جميع أنحاء العالم، مثل متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS)، ووباء إنفلونزا الخنازير (H1N1) عام 2009.
في كل حالة، تسبب الاتصال النحاسي في قتل الفيروس في غضون دقائق.
وتوصل بحث جديد نُشر في مجلة New England Journal of Medicine أن النحاس يمكن أن يكون فعالاً ضد فيروس السارس- CoV-2، الفيروس المسؤول عن جائحة فيروس كورونا الحالية.
وأظهرت الدراسة أنه بعد أربع ساعات فقط لم يعد الفيروس معدياً على سطح النحاس.
ووفقاً للبحث، فإن الجانب السلبي لاستخدام النحاس هو أنه ليس فعالاً في تدمير الفيروسات، كما هو الحال في قتل البكتيريا، خاصة إذا كان فيروساً محمولاً في الهواء.
والسبب هو أن الفيروسات ليست حية بالمعنى الحرفي للكلمة، بل عوامل تنقل العدوى.
وفي حالة فيروس كورونا فهو ينتقل عبر العيون والأنف والفم، وهنا صعوبة توظيف النحاس في حماية المنافذ الرئيسية للفيروس.
لكن العديد من شركات إنتاج المعدات الطبية تستخدم النحاس في أثاث غرف المستشفيات كالأسرة الطبية ومقابض الأبواب وأزرار الكهرباء وما إلى ذلك.
من الجدير بالذكر أن المعادن الثقيلة، بما في ذلك الذهب والفضة، مضادة أيضاً للبكتيريا، لكن التركيب الذري الخاص بالنحاس يمنحه قوة قتل إضافية.