تتزينُ مدينتنا منذ ما يزيد عن الشهر بزينة أعياد الميلاد، وتتبارى المحالّ والشوارع والقرى الصغيرة بما تجود به من زينات وديكورات مختلفة، لا يكاد يخلو ركن من شجرة الميلاد بمختلف أحجامها المختلفة، وتتوسط أكبرها أشهر ميادين ميونيخ، لتكون مزاراً للسكان والسياح على حد سواء، كما تحيطك رائحة الكريسماس في كل مكان تذهب إليه، منتشرة عبر الهواء البارد في الأنحاء.
تتوالى الرسائل القادمة من المدرسة أو الحضانة لدعوة الأهل في اليوم المحدد للاحتفال بعيد الميلاد في الفصل مع أبنائهم، تتزيّن المدرسة نفسُها بشجرة كبيرة مليئة بالزينة الملونة في أكبر أركانها، ويشارك جميع الطلبة في الإعدادات المختلفة للاحتفالات المدرسية، وفي الأنشطة المختلفة المرتبطة بها.
هكذا يستقبل أبنائي عيد الميلاد في ألمانيا، أو ما يُسمى بالكريسماس بالإنجليزية، وبمسمى آخر الفايناختن بالألمانية.
في مثل هذه الأجواء تُصيب الحيرة الكثيرَ من الأسر، خاصة المسلمة منها، بين الرغبة في الحفاظ على الهوية الإسلامية للأطفال، والحرص على تحقيق اندماج متوازنٍ لهم في هذا المجتمع، الذي اخترنا أن ينشأ فيه أبناؤنا.
هل نحتفل بالكريسماس؟
تحرص أسرتنا في الغالب على الاستفادة من خبرات مَن سبقونا في العيش هنا، ربما نفضل أن نستبق خبرتنا بخطوات تضاف عليها من خبرات سابقة، فلا نبدأ مشوارنا مع أبنائنا خاصة من منطلق ما جمعناه بأنفسنا في سنوات حياتنا القليلة، ولكن نحاول أن نبدأ من النقطة التي انتهى عندها مَن سبق، لنضيف عليها خطوات جديدة، ربما ينتفع بها القادمون من بعدنا.
ربما من أصعب اللحظات بعد إجازة الكريسماس، هي الفقرة الصباحية التي يتحدث كل طفل فيها عما حصل عليه من هدايا في عيد الميلاد، وربما مع إظهار الصور المختلفة لطريقة رصّ الهدايا تحت الشجرة للأبناء الأكبر سناً.
لا يحصل الطفل هنا على هدية من والديه فقط، فلديه أسرة كبيرة هنا، يحصل على هدية من كل فرع منها، فهذه هدايا قادمة من الأجداد والأخوال والأعمام، ومن لم يستطع تقديم الهدية فإن عملية إرسالها عبر البريد عملية سهلة، سريعة، خاصة في فترة ما قبل الأعياد، وهو الأمر الذي يفتقر إليه أبناؤنا هنا، فهنا لا عائلة إلا الأسرة الصغيرة المكونة من الأم والأب والإخوة، وربما يكون للبعض خال أو عم هنا أو هناك.
لقد قرّرنا ألا نحتفل بالكريسماس في منزلنا، فلا وجود في المنزل لشجرة الميلاد، ولا نقدم الهدايا للأبناء، وربما استغللنا هذا اليوم لقصّ قصة سيدنا عيسى عليهم من جديد، من منظورنا الإسلامي للقصة.
ولكن، لا نجد كذلك غضاضة من مشاركتهم الاحتفال في مدارسهم، وحضاناتهم، وربما حضرت معهم الاحتفال أيضاً إذا ما وُجهت الدعوة للآباء للمشاركة، هذا الاحتفال هو الأكبر على مستوى الدولة والأفراد، ومشاركة زملائهم له جزء مهم من الاندماج الذي نحرص عليه، في نفس الوقت، لم يعد للاحتفال خاصة في الأجيال الجديدة أي معنى ديني خاص، هم يحتفلون في هذا اليوم كجزء من عاداتهم التي اعتادوا عليها.
نوجه التهنئة لجيراننا، وكعادةٍ لدينا نبعث لهم كل عام بكارت نهنئهم فيه بالكريسماس وببداية العام الجديد. ولا تقتصر التهنئة على الجيران، فما قبل الكريسماس بأسبوع تقريباً يتبادل الناس في الشوارع التهنئة عند تعاملاتهم اليومية، سواء مع البائع في المحل، أو المدرب في كورس الرياضة، أو المدرّسة في المدرسة، فيعد ذلك جزءاً من التحية عندهم عند الوداع، خاصة إذا كنت تعلم أنك لن تراه مرة أخرى قبل بداية الأعياد.
هذا جانب من جوانب الاندماج، فماذا عن الحفاظ عن الهوية؟ هل يكفي حقاً عدم الاحتفال في المنزل بذلك؟
كيف يتقبل أبنائي عدم الاحتفال داخل المنزل
كأي طفل آخر، لا يحب الأطفال عادة أن يشعروا بالاختلاف عن أقرانهم، فعندما بدأ أدراكهم للأمر واجهنا دائماً نفس التساؤل: لماذا لا نحتفل مثلهم؟ إنه لم يعد احتفالاً دينياً، فلماذا لا يمكننا الاحتفال أيضاً؟ ما المشكلة من تلقّي هدية في مثل هذا اليوم مثل الجميع؟ لا يحتفل المسيحيون فقط بعيد الميلاد، فالهنود والصينيون وجميع الجنسيات هنا تحتفل، فلماذا نحن لا؟
نحاول أن نشرح لهم أنه ورغم عدم كونه احتفالاً دينياً (بعيداً عن أصله لماذا أُنشئ في الأساس) فنحن كمسلمين في النهاية لنا أعيادنا واحتفالاتنا الخاصة بنا، والتي علينا فيها أن نحتفل بكل ما في طاقتنا للاحتفال.
ما هي الهوية التي نسعى للحفاظ عليها؟
منذ بدأ أبناؤنا استيعاب ما حولهم، فكرنا كثيراً كيف عليهم أن يعرفوا عن أنفسهم في هذا العالم، هل هم مصريون، فعليهم الحفاظ على هويتهم المصرية، بما يتبعها من عادات وتقاليد، أم هم ألمان فعليهم الحفاظ على الهوية الألمانية وبما يكتسبونه أيضاً من عاداتهم وتقاليدهم.
وصلنا في نهاية المطاف إلى أن ما عليهم تعريف أنفسهم به لأنفسهم وللغير، أنهم مسلمون ألمان، هم مسلمون بأصل العقيدة والدين، وألمان بأصل الدولة التي ولدوا فيها وكبروا بين أهلها، إلا أن تعريفهم لأنفسهم يجب ألا يقتصر على ذلك.
كل منهم هو مسلم ألماني، ينتمي لأسرة أصولها مصرية، عربية، أساس الهوية التي عليه الحفاظ عليها هي هويته الإسلامية، متمثلة في عبادته لله تعالى، وما يتبع الإيمان بالله من عمل.
ولكل منهم هوية عربية، بانتمائه لها، فعليه الحرص على تمكنه من التحدث بالعربية، والسعي لتحسين قدراته القرائية بها.
ولكل منهم هوية ألمانية بحياته في هذه البلاد ووسط أهلها، على ألا تطغى أي هوية على هويته الإسلامية في الأساس.
ممارسة أبنائي لصلاتهم أثناء الرحلات المدرسية هو جزء من الحفاظ على هويتهم الإسلامية، صيامهم في رمضان أثناء اليوم الدراسي الطويل وأحياناً مع ممارسة الرياضة، هو جزء من محافظتهم على هويتهم الإسلامية.
اندماجهم في المجتمع الألماني، وتعاملهم مع أهل البلاد بشكل لا يجعلهم غرباء كثيراَ عنهم، هو جزء من محافظتهم على هويتهم الألمانية.
لا تقتصر الهوية على هوية واحدة، بل ينتمي الإنسان في العادة لعدة هويات مختلفة، عليه أن يعلم كل منهم أن انتماءه لا يؤثر ذلك على غيره، وأن يجعل له هوية مرجعية، إليه دائماً يكون المنتهى.
كيف يكون عيدا الفطر والأضحى في منزلنا؟
أذكر في صغري أنني كنت أستيقظ صباح يوم العيد لأجد والدتي قد وضعت هديتي تحت الوسادة، لأراها بمجرد الاستيقاظ، وقبل الذهاب إلى صلاة العيد، وهو الأمر الذي أحببت أن يستمر مع أبنائي أيضاً كعادة من عادات الاحتفال بأعيادنا، وهكذا كانت البداية معهم، أضع لهم هداياهم تحت وسائدهم ليجدوها في الصباح، وأجهز لهم ملابس العيد الجديدة.
مع دخولهم للمدرسة قررنا أن يكون الأمر أكثر ابتكاراً، وكما ذكرت سابقاً، فالفقرة الأصعب في الاحتفال بالكريسماس هي فقرة التحدث عن الهدايا، وعدم وجود الكثير من الأهل لدينا هنا، فبالتالي قلة الهدايا المقدمة لديهم.
تتمثل عادات الاحتفال بالعيد في منزلنا في التالي:
يستيقظ أبناؤنا ليجدوا أن طاولة الطعام قد امتلأت بشتى أنواع الحلوى والسناك، تملأ الزينة والبالونات الأرضية والحوائط في غرفة المعيشة، ويختلف توزيعنا للهدايا لهم كل عام، ففي كل عام هناك ديكور جديد لوضع الهدايا به، تلك الهدايا المتمثلة في هدايا من أمهم وأبيهم، هدايا من كل منهم لإخوته الآخرين، وهدايا قرّرنا أن نشتريها باسم أجدادهم حتى لا يشعروا بقلة الهدايا المقدمة لهم في هذا العيد.
لا يكتمل العيد ولا يصبح عيداً إلا بصلاة العيد، وهي أمر حرصنا عليه مهما حدث كل عيد، لنصلى في المسجد مع مسلمين يمثلون العديد من الجنسيات المختلفة، وتنتهى الصلاة بتناول الإفطار هناك، ثم قضاء اليوم في خارج المنزل، مع التغاضي عن كافة المحاذير اليومية في تناول الحلوى أو استخدام الإنترنت لهم في هذا اليوم.
ربما يشعر أبنائي بميزة إضافية في يوم العيد، فهم لهم الحق يومها في التغيب من المدرسة، في حين أن باقي زملائهم يذهبون إليها بشكل عادي، بل ولهم يومان أو ثلاثة إجازة من المدرسة بمناسبة العيد، فيذهبون بعدها يقصّون على أصدقائهم عن الهدايا التي حصلوا عليها، وكيف كان يوم العيد عندهم.
كم سعدت كثيراً منذ عامين عندما أخبرتني ابنتي الصغرى أنها تتمنى لو أن كل يوم في أيامها هو يوم عيد، لذلك نحرص كثيراً على أن تكون أيام أعيادنا يوماً مميزاً خاصاً يتذكرونه من العيد للعيد.
كيف كان رمضاننا الماضي؟
في ألمانيا هناك ما يمسى Adventskalender، وهو عبارة عن علبة كرتونية تحتوي على 24 باباً، باب لكل يوم من بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) وحتى يوم الكريسماس، يفتح فيها الطفل أو الشخص بابا كل يوم، ليحصل على قطعة من الحلوى، أو هدية صغيرة تبعاً للشركة التي أنتجت هذه النتيجة، وتبعاً لسعرها.
منذ أربعة أعوام تقريباً بدأت تنتشر نفس الفكرة Ramadankalender، حيث كنا نستطيع شراءها للمرة الأولى عن طريق الإنترنت، وكانت تحتوى على التمر، في العام التالي، وجدنا شركة قرّرت أن تبيعها في أحد فروع المحلات الألمانية الكبرى لتكون موجهة للأطفال، وتحتوى أبوابها الثلاثون على قطع من الحلوى.
في العام الماضي خطرت لي فكرة، أنني لا أريد أن تكون فقط من الحلوى، وأريدها أن تكون داعمة بشكل أكبر لأبنائي في رمضان، العام الماضي، حيث إنه مازال يحتوى على عدد ساعات الصيام الأطول، في جو يزداد حرارة في الصيف في ألمانيا كل عام، فقررت أن أجعل Ramadankalender عبارة عن هدية صغيرة لكل يوم، بدلاً من قطعة الحلوى.
كان التحدي أنه عليّ أن أجمع أفكاراً لـ90 هدية (ثلاثون هدية لكل طفل من أبنائي الثلاثة)، وأن أقوم بتغليفها، وإيجاد مكان لوضعها فيه.
كان الأمر صعباً بعد أن بدأت فيه، فمع الهدية العشرين بدأت الأفكار كلها تنفد من رأسي بالكامل، مع صعوبة اختيار هدايا لصبيين وفتاة، كل منهم له شخصيته الخاصة واهتماماته الأخرى، خاصة أنني كنت أبحث عن هدايا بسيطة قد تكون في بعض الأحيان عبارة عن مصاصة أو 1 يورو.
رغم الصعوبات التي واجهتها في التنفيذ فإن النتيجة في النهاية كانت تستحق، لم أتوقع حقاً أن يكون لمثل تلك الهدايا اليومية الصغيرة طيلة شهر رمضان هذا الأثر الكبير في نفوسهم، ودعمهم طوال الشهر على الصيام. وهو ما قرّرت هذا العام أن أبدأ التحضير له مبكراً، ليتم إخراجه بشكل أفضل من العام الماضي.
ما بين الهوية والاندماج
تلك المعادلة الصعبة التي تواجه الأسر المسلمة في بلاد لا يمثل المسلمون فيها الغالبية العظمى، من واقع تجربتي الخاصة لا يمكنك الاكتفاء بواحد منهما، فلا يمكنك التركيز فقط على عامل الحفاظ على الهوية، ولا يمكنك فقط أن تهتم بعامل الاندماج لك ولأبنائك، في النهاية الحياة هنا كمسلم غربي ترتكز على أهمية الجانبين.. فعليك الحفاظ على عقيدتك وهويتك المسلمة، ولكن في نفس الوقت عليك أن تحاول الاندماج في ذلك المجتمع الذي تعيش فيه، وتعمل على أن يندمج فيه أبناؤك بشكل يجعل حياتهم فيه ليست بالغريبة تماماً.
أصبحت أكثر اقتناعاً بأن الوضع الطبيعي أن يتعايش الناس بأديان وثقافات مختلفة مع بعضهم البعض، وأن يحافظ كل طرف منهم على دينه وما يريد الحفاظ عليه من ثقافاته، فيزيد عليها أو ينتقص منها ما يجعله شخصاً أفضل، تحت مظلة دينه وعقيدته. لا يبدو الأمر سهلاً، إلا أنه يستحق الجهد المبذول فيه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.