تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يقضون فترة طفولتهم في مناطق ترتفع فيها مستويات تلوث الهواء قد يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية في مرحلة متقدمة من حياتهم؛ بحسب ما نشرت صحيفة The Guardian البريطانية
تلوث الهواء أصبح مصدر قلق متنام فيما يتوصل عدد متزايد من الدراسات إلى وجود روابط بينه وبين حالات مرضية مختلفة تبدأ بالربو والخرف وتنتهي بأنواع مختلفة من السرطان.
وهناك أيضاً ما يشير إلى أنها قد تؤثر سلباً على الصحة النفسية. إذ توصل بحث نُشر في شهر يناير/كانون الثاني إلى أن الأطفال الذين يترعرعون في المناطق التي ترتفع فيها نسبة تلوث الهواء في لندن أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب في سن 18 عاماً مقارنةً بالأطفال الذين نشأوا في مناطق أنقى هواءً.
لكن دراسة أجراها باحثون في الولايات المتحدة والدنمارك أشارت إلى وجود صلة بين تلوث الهواء وزيادة خطر التعرض لمشكلات نفسية، مثل الاضطراب ثنائي القطب والفصام واضطرابات الشخصية.
معدلات الاضطرابات النفسية
وتجدر الإشارة إلى أن بين 1% و2% من سكان المملكة المتحدة يعانون من اضطراب ثنائي القطب خلال حياتهم، وتعاني النسبة نفسها من مرض الفصام. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 5% من الأشخاص في المملكة المتحدة يعانون من اضطراب الشخصية في فترة ما من حياتهم.
وقال البروفيسور أندريه رزيتسكي، وهو أحد المشاركين في هذا البحث في جامعة شيكاغو، إن الفريق اطلع على عمله بعد توصله إلى أن علم الوراثة لم يقدم تفسيراً كاملاً لمرور بعض الأشخاص بهذه الحالات وعدم مرور البعض الآخر بها.
أوضح رزيتسكي وزملاؤه في مقال لهم في دورية PLOS Biology كيف أنهم تبنوا نهجاً عاماً نوعاً ما في بادئ الأمر أثناء فحصهم للروابط المحتملة بين هذه الحالات وتلوث الهواء. واستعانوا ببيانات التأمين لـ151 مليون شخص جُمعت بين عامي 2003 و2013 لاستكشاف معدلات هذه الاضطرابات النفسية في مقاطعات الولايات المتحدة. ثم حللوا هذه البيانات إلى جانب متوسط مستوى تلوث الهواء في كل مقاطعة.
وتوصل الفريق إلى أن معدل الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب كان أعلى بنسبة 27% في آخر 14% من المقاطعات في تصنيف نقاوة الهواء مقارنة بأول 14% من المقاطعات (أي التي تتمتع بأنقى هواء)، بعد الأخذ في الاعتبار عوامل العمر والنوع ومستويات الفقر ومتوسط الدخل في هذه المقاطعات. وتوصل الفريق مبدئياً أيضاً إلى وجود رابط بين الاكتئاب وتلوث الهواء.
ومع ذلك، كان هذا التحليل قائماً على متوسط مستويات تلوث الهواء في مناطق هائلة الحجم. وبالإضافة إلى ذلك، قد لا تعبر معدلات الإصابة بهذه الحالات النفسية عن الأفراد ذوي الدخل المنخفض الذين تقل فرص حصولهم على التأمين.
عدد من التفسيرات
وانتقل الفريق بعدها إلى دراسة بيانات تلوث الهواء في الدنمارك، التي جُمعت في نطاق كيلومتر مربع.
ودرسوا التعرض لتلوث الهواء على مدى السنوات العشر الأولى في حياة 1.4 مليون شخص ولدوا وعاشوا في البلاد بين عامي 1979 ونهاية عام 2002، وفقاً لتقديرات قائمة على عناوين منازلهم. ودُرست مستويات 14 نوعاً من الملوثات -مقارنةً بـ87 نوعاً من الملوثات في الجزء الأمريكي من الدراسة- واستعانوا بها لقياس التعرض الكلي لتلوث الهواء خلال تلك السنوات.
ثم فحص الفريق تشخيصات الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب والفصام واضطراب الشخصية والاكتئاب حتى نهاية عام 2016.
وبعد دراسة بعض العوامل التي تشمل العمر والنوع والحالة الاجتماعية والاقتصادية، وجد الفريق أن معدل الاضطرابات النفسية الأربعة كان أعلى بين الأشخاص الذين تعرضوا بدرجة أكبر لتلوث هواء شامل خلال طفولتهم.
وبعد انقسام المشاركين إلى سبع مجموعات متساوية، وفقاً للهواء الذي تعرضوا له حتى سن العاشرة، وجد الباحثون أن نسبة الإصابة في آخر 14% من الأشخاص (أي الذين تعرضوا لأشد الهواء تلوثاً) بالاضطراب الثنائي القطب والفصام والاكتئاب واضطراب الشخصية 29%، و148%، و51% و162% على التوالي وهي معدلات أعلى من معدلات الإصابة لدى أول 14% من المشاركين (أي الذين تعرضوا لأشد الهواء نقاوة).
اقترح الفريق عدداً من التفسيرات للطريقة التي تتأثر بها الصحة النفسية بتلوث الهواء، مشيراً إلى الدراسات التي أجريت على الحيوانات والتي اقترحت مساراً واحداً قد يكون أن التلوث يتسبب في حدوث التهاب في الجهاز التنفسي يؤدي بدوره إلى التهاب في جميع أنحاء الجسم، بما في ذلك الدماغ.
وكان هناك اقتراح آخر وهو أن ملوثات الهواء تنتقل من الأنف إلى المخ وتتراكم هناك، مما يتسبب في التهابه وتلفه.
إذا تأكد ارتباط اضطرابات الصحة النفسية بمستويات تلوث الهواء، فقد يمنحنا ذلك شيئاً من الأمل على عكس المتوقع. إذ قال رزيتسكي: "البيئة يمكننا تغييرها على عكس الاستعداد الوراثي".
التعرض الطويل الأجل لعوادم السيارات
غير أن البحث له حدوده: إذ أن النتائج لا تثبت أن تلوث الهواء يؤدي إلى الإصابة بهذه الحالات، في حين أن التحليلات لا تأخذ في الاعتبار تأثير العديد من العوامل المعروفة بأنها تؤثر على الصحة النفسية، مثل التاريخ العائلي في المشكلات النفسية أو التنمر.
وقال الدكتور أيوانيس باكوليس، خبير الإحصاء الحيوي في كلية كينغز كوليدج في لندن، إن الدراسة أضافت إلى أدلة سابقة على وجود صلة محتملة بين تلوث الهواء واضطرابات الصحة النفسية.
وقال: "رغم أنه لا يمكن إثبات وجود علاقة سببية بينهما، يشير هذا البحث إلى أنه يمكن الوقاية من الإصابة بالأمراض النفسية بنسبة كبيرة إذا تحسنت نوعية الهواء".
وأضاف باكوليس أن هناك بالفعل الكثير من الأدلة على أن تلوث الهواء يمكن أن يضر بالعديد من جوانب الصحة الأخرى، مضيفاً أنه ينبغي الاهتمام باتخاذ بعض التدابير مثل إنشاء مناطق خالية من السيارات في المدن.
وكشفت دراسة ثانية، نشرت في دورية Investigative Medicine، عن وجود صلة بين التعرض الطويل الأجل لعوادم السيارات والتنكس البقعي المرتبط بالعمر (ARMD)- وهو أحد الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى مشكلات الإبصار لدى كبار السن.
استعان الباحثون ببيانات التأمين الصحي الوطنية من عام 2000 إلى عام 2010 الخاصة بما يقرب من 40 ألف شخص في سن 50 عاماً أو أكبر في تايوان، إلى جانب البيانات المتعلقة بنقاوة الهواء من عام 1998 إلى عام 2010 التي تتمحور حول موقع المركز الطبي الذي زاره الأشخاص لتلقي المساعدة في الأمراض التي أصابتهم مثل البرد.
ووجد الفريق أن المرضى في الربع الأول (25%) الذين يزورون المراكز الطبية بسبب مستويات ثاني أكسيد النيتروجين يزداد خطر تعرضهم للإصابة بالتنكس البقعي المرتبط بالعمر ARMD عن أولئك الذين زاروا المراكز في الربع الأخير بمقدار الضعف.
ووجدوا رابطاً مماثلاً لتلوث أول أكسيد الكربون. ومع ذلك، لم تؤخذ العديد من العوامل الأخرى مثل تاريخ الإصابة بالحالة في العائلة في الاعتبار في هذا البحث، في حين أنه من المحتمل أن الأشخاص الذين تقل فرص إصابتهم بعدوى الجهاز التنفسي في المناطق الأقل تلوثاً قد أثروا على دقة هذه البيانات.