كانت يونا لي مجرد طفلة في الثانية من عمرها، لكنها تحمل لغزاً طبياً مخيفاً. إذ كانت تعاني من نوبات صرع مفزعة، وبكاءٍ يصعب تهدئته، ولم تكن تستطع الحديث، أو المشي، أو حتى الوقوف.
"لماذا تعاني بهذا القدر؟"، كان هذا السؤال يؤرق والدتها طوال الوقت. لم تُسفر الفحوصات الدماغية والاختبارات الجينية والعصبية عن أي إجابات.
لكن عندما تلقت رسالة بريدٍ إلكتروني من طبيب شهير تشير إلى أنَّ يونا ربما تعاني من تحوّرٍ في جينٍ يُسمَّى FOXG1، تجمَّدت والدتها سو كيونغ ذات الأصول الكورية في مكانها، حسب وصف تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
قالت: "كنتُ على علمٍ بطبيعة هذا الجين، فأنا قد درسته".
300 شخص فقط مصابون بهذه الطفرة
لم يكن أي شخصٍ في العالم تقريباً ليكون لديه أدنى فكرةٍ عنه، إلا أنَّ سو كيونغ متخصصةٌ في علم جينات الدماغ، ويصفها روبرت ريدل، مدير البرامج في علم الأمراض العصبية بالمعهد الوطني للاضطرابات العصبية والسكتات الدماغية، بأنَّها "نجمة في هذا المجال".
فلسنواتٍ عديدة، كانت سو كيونغ، عالمة الأحياء التنموية في جامعة أوريغون للصحة والعلوم بالولايات المتحدة، تدرس عائلة جينات FOX. وعرفت أنَّ طفرات جين FOXG1 الضارة نادرة للغاية وغير موروثة عادةً، فهي جينات تتحوَّر بصورةٍ عفوية أثناء الحمل.
الغريب أن نحو 300 شخص فقط في جميع أنحاء العالم شُخِّصَت إصابتهم بمتلازمة FOXG1، والمفاجأة أن ابنتها واحدة منهم. ووصف الدكتور ريدل ما حدث بأنَّه "قصةٌ مذهلة. باحثة عادية تعمل على شيءٍ قد يساعد البشرية، واتضح أنَّه يؤثر مباشرةً في حياة طفلتها".
الطفرة تؤدي لتأخر النمو وصغر حجم الدماغ
FOXG1 هو جين شديد الأهمية، لدرجة أنَّ اسمه الأصلي هو Brain Factor 1، وذلك على حد قول د. ويليام دوبنز، أستاذ طب الأطفال وعلم الأعصاب في جامعة واشنطن، الذي نشر دراسةً في العام 2011 عن متلازمة FOXG1، واصفاً إياه بأنَّه "واحدٌ من أهم الجينات المسؤولة عن النمو الدماغي".
يوفر FOXG1 شيئاً أشبه بنموذج إرشادي لبروتين يساعد على تفعيل الجينات الأخرى أو تعطيلها، مما يساعد في إتمام ثلاث مراحل حيوية للدماغ: تحديد المناطق العلوية والسفلية، وتعديل عدد الخلايا العصبية المنتجَة، و"تنظيم وظائف القشرة الدماغية بأكملها"، بحسب قول دوبينز.
أما متلازمة FOXG1، فهي حالة نادرة تحدث نتيجة خلل بهذا الجين، وتؤدي لتخلف النمو لدى الأطفال الصغار والرضع، وحدوث تشوهات هيكلية في الدماغ، وتنمو رؤوس الأظفال المصابين ببطء أكثر من المعتاد، ما يؤدي إلى حجم صغير غير عادي للرأس في مرحلة الطفولة المبكرة.
وترتبط الحالة بنمط معين من التشوهات الدماغية التي تتضمن اتصالاً رقيقاً أو ضعيفاً بين النصف الأيمن والأيسر من الدماغ.
وعادة ما يعاني الأطفال المصابون بهذه الحالة من إعاقة ذهنية شديدة، والحركات الشاذة أو اللاإرادية .
وتمنع الأطفال من الجلوس أو المشي دون مساعدة
فجأةً، اضطرت سو كيونغ (42 عاماً) وزوجها جاي لي (57 عاماً)، وهو اختصاصي آخر في علم الوراثة بجامعة أوريغون للصحة والعلوم، إلى التحول من عالمين حياديين إلى والدي مريضٍ، يائسين، للحصول على إجابات.
بدأت سو كيونغ في تركيز أبحاثها مباشرةً على اضطراب ابنتها. وبمساعدة جاي، بدأت تدرس كيف يعمل جين FOXG1، ولماذا تكون طفرات كالتي تعاني منها يونا مدمرةً بهذا الشكل.
وقالت: "هدفنا النهائي هو إيجاد علاج أفضل لمرضى متلازمة FOXG1". هدفها اليومي هو مساعدة يونا على تحقيق حتى لو أقل قدرٍ من التقدم.
ومعظم الأطفال المصابين بهذه المتلازمة لا يتعلمون الجلوس أو المشي دون مساعدة. كما يعانون غالباً من مشكلات التغذية، واضطرابات النوم، والنوبات، والتهيج، والبكاء المفرط.
أما يونا فهي الآن فتاةٌ لطيفة الطباع تبلغ من العمر 8 أعوام، لا تزال ترتدي حفاضات وسترة طفلٍ صغير يبدأ لتوه في تعلم المشي. قال والدها إنَّ "إدراكها يساوي إدراك طفلٍ يبلغ نحو 18 شهراً من العمر".
وتابعت الأم دامعة العينين، "دماغ ابنتي متضررٌ جداً. هل يمكننا إنقاذ أيٍّ من مهاراتها؟".
نمو أبطأ للدماغ.. وعدم الاستجابة للأصوات
عذبت سو كيونغ نفسها بسؤال "ما الخطأ الذي ارتكبته؟". هل أكلت شيئاً أثناء الحمل أصاب يونا بشيءٍ ما؟ وقالت: "كنتُ أسافر كثيراً أثناء فترة الحمل لحضور الحلقات الدراسية، هل كنتُ متوترةً جداً؟".
فعندما ولدت كانت طبيعيةً تماماً، لكن سرعان ما بدت الأمور على غير ما يرام. كانت يونا غالباً ما تفشل في الاستجابة للأصوات، وكانت تكافح لابتلاع الحليب من ثدي والدتها أو من الزجاجة.
وقال أحد الأطباء إنَّ محيط رأسها لم ينمُ بما فيه الكفاية، إلى أن بدأت يونا تُصاب بنوباتٍ أدت إلى إسراع عائلتها بها إلى غرفة الطوارئ. كانت تبكي باستمرار، حتى إنَّ سو كيونغ اضطرت لطمئنة الجيران بأنَّ يونا لم تكن تتعرض لسوء المعاملة.
بعد وقتٍ قصير من عيد ميلاد يونا الثاني، سافرت سو كيونغ إلى واشنطن للعمل في لجنة معاهد الصحة الوطنية الأميركية لمراجعة مقترحات المنح المقدمة من الباحثين في مجال تطوير الدماغ.
وأثناء العشاء، وجدت نفسها جالسةً إلى جانب الدكتور ديفيد رويتش، وهو اختصاصي معروف في طب حديثي الولادة، وعالم عصبي لم تكن تعرفه إلا من خلال سمعته.
عندما أخبرت الدكتور رويتش، كان في حيرةٍ من أمره، لكنَّه عرض عليها إرسال فحوصات يونا إلى "أمهر خبير" في طب الأشعة العصبية في العالم، وهو الدكتور جيم باركوفيتش من جامعة كاليفورنيا. وجاءت النتائج: "نمط شديد الغرابة" لم يُر مثله قط على مدار العقود التي قضاها في تقييم صور الدماغ المرسلة إليه من جميع أنحاء العالم.
رفض أخصائي الأعصاب المسؤول عن حالة يونا السماح بإجراء تحليل على جينات FOXG1، معتبراً أنَّ احتمالية إصابتها بالمتلازمة مستحيلة وغير ذات صلة، لأنَّها لن تغير من علاج يونا، حسبما قالت سو كيونغ.
لذا قرَّرت الأم أن تُجري عملية معرفة التسلسل الجيني بنفسها، خاصة أنها أصبحت حاملاً مرةً أخرى. النتائج جاءت لتؤكد ما كانت تخشاه، أنها مصابة بالفعل بهذه المتلازمة، لكن كانت طفرةً عشوائية وليست وراثية، لذلك شعرت بالاطمئنان لأنَّ طفلها الثاني لم يكن معرضاً سوى لخطرٍ ضئيل.
ضعف الاتصال البصري والافتقار إلى مهارات التحدث واللغة
عندما كانت يونا في السادسة من عمرها، لاحظت سو كيونغ وهي نائمة في الفراش بجوارها شيئاً غير معتاد، إذ رأت أنَّ يونا كانت تحاول الجلوس. تساءلت سو كيونغ: "أأنا أحلم؟". فقد فشلت يونا في تعلم هذه المهارة لسنوات، التي عادةً ما يتقنها الأطفال بعمر ستة أشهر.
تذكر سو كيونغ أنَّ المعالجين الفيزيائيين أوقفوا جلسات يونا قائلين: "ما الفائدة منها إذا كانت لا تحقق أي تقدم؟".
بدأت سو كيونغ حينها حثَّ يونا بعناءٍ شديد على دفع جسدها باستخدام كوعيها، سو كيونغ وزوجها يعتقدان أنَّ نجاح يونا في الجلوس يُظهر أنَّهما إذا استمرا، فيمكن ليونا أن تحقق تقدماً تدريجياً. وهدفهما التالي هو محاولة التواصل مع يونا لمعرفة إن كانت جائعة، أو غير مرتاحة، أو تريد شيئاً ما.
وتؤدي متلازمة FOXG1 إلى محدودية التواصل والتفاعل الاجتماعي للمصابين، بما في ذلك ضعف الاتصال البصري والافتقار إلى مهارات التحدث واللغة.
رفض والدا يونا السماح للمستشفى بإيقاف علاج النطق، وحثَّا المعالجين على محاولة تعليم يونا أن تحدق في شيءٍ تريده.
جربت ديانا ديبيس، وهي أخصائية في لغة الكلام: عرض صورٍ، ثم استخدام برامج لمراقبة العين تتبّع حركات عيني يونا.
وبعد مرور أشهر على محاولات ديانا تعتيم الغرفة للحد من المشتتات، وتقييد يونا للسيطرة على حركاتها المتشنجة، تستطيع يونا الآن التحديق لنحو ثلاث ثوانٍ، مما أدى إلى حدوث بعض الاستجابات في تلك البرامج. ويأمل والدا يونا في تدريبها على اختيار لعب الأطفال أو الكتب بعينيها.