ينتحر 400 طبيب سنوياً في أميركا.. معلومة تثير القلق عندما تصدر عن شخص يفترض به أن ينقذ الحياة لا أن ينهيها، ولكن تمرُّس الطبيب في مهنته لا يعني أنه متمرس في التعامل مع ضغوطها، ولهذا السبب يحتاج الطبيب إلى الذكاء العاطفي ليتمكن من مساعدة الآخرين.
ما الذي يجعل الأطباء معرَّضين بشدة للإقدام على الانتحار؟
يشترك العاملون في مجال الرعاية الصحية كالممرّضين والمسعفين، في بعض هذه الأسباب كذلك.
تشير الإحصائية التي نشرها موقع NPR الطبي، عن أرقام رسمية، إلى أن أكبر المخاطر التي يواجهها الأطباء الذين يحاولون التصدي للانتحار أنهم يعرفون بالضبط كيف ينهون حياتهم، ويسهل عليهم في كثير من الأحيان الوصول إلى الوسائل اللازمة.
الضغط الكبير الذي ينتج عن ساعات العمل الطويلة والدوام الليلي يؤدي إلى أزمات نفسية.
تدريب الأطباء على تحسين الذكاء العاطفي يصبح ضرورة
لا يناقش الأطباء مع أخصائيين نفسيين ما يجول في خاطرهم، أو درجات إرهاقهم، خوفاً من أن يخسروا رخصهم لممارسة المهنة، بعد الديون التي تراكمت عليهم ليحصلوا على شهاداتهم.
لا يركزون على كل الحالات التي ساهموا في إنقاذها، بل على الحالة الطبية الوحيدة التي فشلوا فيها.
وهنا يصبح تدريب الأطباء على تحسين الذكاء العاطفي ضرورة للتعامل مع الإنهاك الشديد وإدارته.
إليك 10 أسباب توضح لماذا يحتاج الأطباء إلى التدرب على تحسين الذكاء العاطفي:
1- متلازمة الاحتراق النفسي.. تؤدي لأخطاء طبية وتصيب الممرضين
أشارت الأكاديمية الوطنية للطب إلى أن نصف أطباء الولايات المتحدة أظهروا إشارات على الإصابة بمتلازمة الاحتراق النفسي.
تظهر في الإصابة بـ "درجة عالية من الإرهاق العاطفي.. وشعورٍ قليل بالإنجازات الشخصية".
وأشاروا إلى وجود روابط بين استياء الأطباء والرعاية التي يقدمونها لمرضاهم.
فقد ألمحت الدراسات إلى أن للاستياء "تأثيراً كبيراً على جودة العمل ومخاطر التورط في دعاوى سوء الممارسة المهنية".
ويعد الاحتراق النفسي والإرهاق الشديد لدى الأطباء هما السببان الرئيسيان للأخطاء الطبية ودعاوى سوء الممارسة المهنية وشكاوى المرضى، إضافة إلى اكتئاب الأطباء، وإدمان المخدرات، والانتحار، وعدد كبير من الأمور الأخرى.
وبالرغم من أن التركيز الأكبر هنا على الأطباء، فإن الدراسات التي أجريت على الممرضين كشفت عن تفشي الاحتراق النفسي والاكتئاب بدرجة كبيرة ومشابهة بينهم أيضاً.
وأشارت دراسة أجريت لاحقاً في 2017 على ما يقرب من 68 ممرضاً مسجلاً، إلى أن 35% من ممرضي المستشفيات و37% من ممرضي المنازل و22% من الممرضين العاملين في أماكن أخرى مصابون بدرجة عالية من الإرهاق العاطفي.
2- الضغط.. خطأ واحد يعني الموت
يتخذ الأطباء خيارات متعلقة بالحياة والموت طوال اليوم، ويشكل هذا ضغطاً شديداً، إذ يجب عليهم اتخاذ قرارات حاسمة فورية.
إن خطأً واحداً قد يعني الموت، في معظم المهن لا يكون لارتكاب خطأ ما مثل هذه العواقب الوخيمة.
ولا توجد سوى بضع مهن أخرى تماثل الطب من ناحية الضغط اللحظي، مثل المؤدين للخدمة العسكرية ورجال الشرطة والإطفاء ومراقبي الحركة الجوية والطيارين.
3- الذكاء العاطفي الضئيل.. تركيزهم على الدراسة لا الآخرين
لكي يكونوا من ضمن طلاب المدرسة الـ1% الأفضل، ويدخلوا كلية الطب، ومن ثمَّ برامج فترة التخصص في أحد فروع الطب، يجب على الطلاب صبّ تركيزهم على مهارات التطور المعرفي، مثل مهارة الحفظ، ودراسة الأسباب والنتائج، وتنمية المهارات الترابطية.
ولا يوجد لديهم تركيز أو وقت للتطور العاطفي مثل إدراك الذات، والتعرف على عاداتهم وما يحفزهم، وتنظيم انفعالاتهم، والتعامل مع المحادثات المعقدة، وبناء روح التعاطف لديهم.
4- عمى التحيز.. معظم الناس يظنون أنهم بين الأفضل!
جميعنا نمتلك بقعاً عمياء، لكن إذا لم تعرف ما هي هذه البقع، فسوف تستمر في إعاقة النجاح.
يقول مارشال غولدسميث، وهو أحد المدربين التنفيذيين المدرجين في قائمة مجلة Fortune لأعلى 100 مدير دخلاً، إن 70% من الناس يظنون أنهم من ضمن الـ10% الأفضل، وهو ما استنتجه من خبرته.
وهذه إحدى بقع التحيز العمياء الكبيرة.
يمكنك من خلال الخضوع لتدريب على الذكاء العاطفي، وتلقي التقييمات، والآراء متعددة المصادر (تقييم جميع من هم في محيطك + تقييم نفسك)، والمقابلات، أن تعرف ما هي بقع التحيز العمياء لديك وأن تبدأ في فهمها وتسليط الضوء عليها.
5– عقدة البطولة.. تحت الضغط لا تكون كل القرارات صائبة
كان على الناس لكي يصبحوا أطباءً أن يقدموا تضحيات كبيرة على مر السنوات.
فالطبيب العادي يقضي من 10 إلى 12 سنة في الكلية، ومن ثم فترة برامج التخصص.
وكان لزاماً عليهم أن يكونوا من ضمن الـ 1% الأفضل في الصف طوال فترة الدراسة، إضافة إلى أنهم معتادون دائماً على أن يكونوا الشخص الأذكى في الغرفة.
ويفخرون بكونهم شديدي الذكاء، كما أنهم متيقنون من ذكائهم وقدرتهم على حل المشكلات.
ونتيجة لذلك، من الصعب أن يشعروا بأنهم ليسوا معصومين عن الخطأ، وأن يتحققوا من صحة المسلمات التي يؤمنون بها والقرارات التي يتخذونها.
فمن الأسهل لهم افتراض أن قراراتهم هي الأصوب. كما ترسخ في داخلهم طوال سنوات الدراسة أن إجاباتهم هي دائماً الإجابات الصحيحة.
لكنهم عندما يتخذون قراراتهم وهم تحت الضغط ويعانون من الاحتراق النفسي، فربما في هذه اللحظات الحرجة لا يكونون أذكى مَن في الغرفة كما اعتادوا أن يكونوا دائماً.
6- التحرر من الوهم عند الأربعين.. "هل هذا ما أردته"
يصاب الأطباء في الأربعين من عمرهم عادة بأزمة هوية ساحقة.
فبعد أن أجلوا الشعور بالإشباع والمتعة والتواصل الاجتماعي لعشرات السنين مقابل الوصول إلى مهنتهم المثالية، وجدوا أن الواقع السائد محبط ومحزن.
أضف إلى ذلك قضاءهم وقتاً أقل مع عائلاتهم، وما يترتب عليه من تزايد التوترات داخل العائلة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى السخط والتشكك، فيبدأون في التساؤل "هل هذا ما أردته"؟
7- مناهج تدريبية قاسية.. النوم ممنوع ولا وقت للأكل
لم تشتمل خطط تدريب الأطباء بعد على الجديد من أبحاث التعلم وأبحاث علوم الأعصاب.
تشير هذه الخطط إلى أن الناس يتعلمون بشكل أفضل عندما ينالون فترات من الراحة، وعندما لا يحرمون من النوم، وعندما يركزون على الطرق المثلى لإعادة تحفيز أنفسهم.
إذ قال مدير برنامج يعمل في برنامج إقامة مرموق "لدينا بيئة عمل منهِكة".
يتوجب على الأطباء المشرفين كي يصلوا إلى ما وصلوا إليه، بذل ساعات طويلة من العمل وساعات محدودة من النوم.
وهم يتوقعون أن يصل المقيمون الجدد إلى ما يريدونه بالطريقة نفسها.
فالأطباء يتناولون طعام الغداء في المصعد، متوجهين إلى اجتماع أو لاستقبال المرضى.
ويجب أن تكون ساعة أو ساعتان كمية كافية من النوم أثناء المناوبة.
بدأت برامج تدريب الأطباء لتوها تشهد بعض التغيرات، إذ يتعلم حالياً بعض الأطباء المقيمين أشياء عن الذكاء العاطفي واستراتيجيات المرونة النفسية.
8-البيئة والراحة.. الالتزامات الورقية الإدارية مرهقة أيضاً
مع نظام إدارة السجلات الإلكترونية الموجود اليوم، يقضي الأطباء من 60 إلى 90 دقيقة زائدة على ساعات عملهم في ملء سجلاتهم.
ويتلقون ملاحظات تُرسل تلقائياً لتنبيههم على تأخرهم في إرسال ملاحظاتهم.
فقد قال أحد الجراحين إنه تلقّى بعد 18 ساعة من عملية جراحية عدة إشعارات تُنبّهه إلى ضرورة إكمال سجلاته.
في كتابهم "الاحتراق النفسي لدى الأطباء Physician Burnout"، الذي صدر عام 2017، قدَّم كل من نعيم الأسود وريلي نادلر وزينة غصوب أهم العوامل البيئية التي حدَّدها الأطباء، ورتَّبوها على مقياس من 1 إلى 5، مع اعتبار أن 5 تعني الأكثر أهمية:
1- أن يكون لدى الطبيب الكثير من الالتزامات الإدارية البيروقراطية. (4.96)
2- قضاء الكثير من الوقت في العمل. (4.29)
3- ألا يكون الدخل عالياً بما فيه الكفاية. (4.04)
4- أن يشعر الطبيب أنه مجرد ترس عادي مكرر في دولاب العمل. (3.96)
5- زيادة الدور الذي تلعبه الحواسيب في العمل. (3.81)
6- وجود كثير من المرضى ذوي المراس الصعب. (3.74)
7- استقبال الكثير من المرضى في اليوم الواحد. (3.64)
9. المقياس العاطفي للفريق.. حالة الطبيب المزاجية تُعدي الآخرين
يؤثر مزاج الطبيب ونفسيته على جميع مَن في الفريق أكثر مما يمكن تصوره.
وقد وجدت مؤسسة غالوب عام 2015، أن المديرين يتسببون في قرابة 70% من الفوارق في الأداء، وذلك وفقاً لدراسات استقصائية أجريت حول مشاركة الموظفين.
وأظهرت أبحاث أجرتها مجموعة Korn Ferry Hay أن القائد يؤثر بنسبة تقرب من 70% إلى 50% على حالة المزاج والجو العام للفريق.
إذا كان القادة هادئين ويتمتعون بروح جماعية، يكون الفريق كذلك.
إذا كانوا نافدي الصبر ومتوترين وعصبيين، يكون الفريق مثلهم أيضاً.
في التدرج الهرمي الوظيفي للمستشفى، قد يكون للطبيب تأثير أكبر على الجو والمزاج العام لفريق الجراحة، أو في غرفة الطوارئ.
حالة الطبيب المزاجية هي أكثر حالة مزاجية تصيب الآخرين بعدواها.
10. إرهاق القرار يؤثر على جودته.. الڤوكا هي السبب
في عالم اليوم، الجميع مشغول، ويطلق بعض الناس على هذا الوضع بيئة الڤوكا (VUCA)، وهي اختصار يستخدم لوصف ظروف عامة تتمثل في حالات من: التقلب، والشك، والتعقيد، والغموض.
حتى يكون الشخص مهماً ومرموقاً ينبغي أن يكون قادراً على اتخاذ قرارات ناجحة وفورية، أياً كان القدر الذي يمكنه الحصول عليه من المعلومات والمعرفة.
وهي مسألة متعلقة بالحصول على مدخلات دقيقة من أجل تحسين المخرجات والإنتاج.
يتمثل مدخل الذكاء العاطفي فيما تعرفه حول نفسك وفي تقييمك للآخرين بسرعة؛ حتى تتحسن قراراتك وتكون أفضل.
يحظى هذا النوع من الذكاء الاستراتيجي بتقدير عالٍ في الجيش.
كما أنه مهارة بالغة الأهمية لأي مسؤول تنفيذي يتخذ آلاف القرارات في اليوم الواحد.
حتى تكون من ذوي الأداء العالي، يجب عليك تقييم الأوضاع والأشخاص سريعاً، وأن يكون بإمكانك التكيف في بيئة الڤوكا (Volatile, Uncertain, Complex, and Ambiguous) تلك.
يطرح موقع Psychology Today معادلة خاصة بالأداء العالي للأطباء والقادة هي:
التعاطف × التبصر × الوضوح = فئة الـ10% الأعلى في الأداء
لذا، سواء كان ما تقوم به هو التدريب أو التوجيه، فإن التركيز يجب أن يكون على تحصيل معرفة أكثر وضوحاً بنقاط قوتك وضعفك، وتقاريرك المباشرة أو فريقك.
وباختصار، يمكن لتدريب وتوجيه مدخلات الذكاء العاطفي مساعدة الأطباء في مواجهة هذه الأمور العشرة التي تؤدي إلى الإرهاق النفسي، إضافة إلى الإدارة الذاتية وتطوير الاستراتيجيات الأخرى.