تخيل نفسك تعيش في شوارع غزة المحاصرة، وفجأة تجد نفسك تجلس في محطة مترو أنفاق في لندن، وتردد أغنية لفيروز، ثم تتوجه لجامعة إنكليزية حيث يستقبلك طلابها بحفاوة.
هل هذا حلم؟ نعم ولا في الوقت ذاته.
دعنا نقول إنه نصف حلم، فقد مكنت التكنولوجيا أهل غزة اليوم أن يعيشوا افتراضياً في لندن؛ إذ سيُطلِق فنانون في لندن وغزة سلسلة من العروض المتزامنة الحية، خلال الشهر الجاري يونيو/حزيران 2018، في محاولة لربط الناس ممن يعيشون تحت الحصار الشديد في هذا الجيب الساحلي مع الجماهير الدولية في بريطانيا.
سيستخدم العارضون عرض الفيديو كخلفية لمحاكاة المشي في منازل وشوارع بعضهم البعض، والتفاعل كما لو كانوا في نفس الغرفة، حتى وإن كان يفصلهم 2000 ميل، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
يبدو الأمر مدهشاً حقاً ويستحق كل هذا العناء كأنهم انتقلوا فعلاً إلى هناك
في محطة مترو تبدو أنها داخل لندن، جلست فتاة غزاوية محجبة، تنشد أغنية لفيروز، بطريقة بدت مؤثرة للغاية.
ظهرت الفتاة في فيديو يبدو أنه لعرض تجريبي أو عفوي للفرق التي تنظم هذا العرض بين لندن وغزة.
الفتاة بالطبع لم تنتقل للندن، ولكن عبر تقنيات التصوير والمحاكاة ظهرت في الفيديو وكأنها هناك.
لكن الأمر يكتسب طابعاً كوميدياً أحياناً إذا جلس طيف شخص على شخص في الطرف الآخر، مثلما حدث لطيف شاب فلسطيني في مكان بدا أنه جامعة بريطانية، وكذلك عندما جلس طيف رجل من بريطانيا على شخص يدخن الأرجيلة في غزة.
ويعرض "في الوطن بغزة ولندن" في بريطانيا في مكانين، الأول في مركز باترسي للفنون، لندن، في المدة بين 28 يونيو/حزيران إلى 1 يوليو/تموز، ومهرجان ليفربول للفنون العربية، في يومي 9-10 يوليو/تموز.
ما الهدف من هذا العرض الغريب؟
يقول المنتجون إن العرض الذي يسمَّى "في البيت بغزة ولندن" يتوغل في استكشاف تكتيكات البقاء، والدوافع الإبداعية، وآليات التكيف التي تدعم أولئك الذين يعيشون في غزة.
وفِي الوقت ذاته يحتفي العرض بالإطلاق المؤقت له عن طريق الابتكار التكنولوجي، الذي يوفر ساحة للعمل، ومساحة للعرض، دون حدود.
ويقود العرض Station House Opera، وهي مجموعة مسرحية تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، كانت قد أدارت عروضاً متزامنة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك البرازيل وسنغافورة.
وقالت المخرجة المشاركة تغريد شقير-فيزوسو، إن الفكرة هي رؤية كيف "يتعاون الناس في ظروف مختلفة جذرياً، ومع ظروف ثقافية مختلفة".
ولكن المشكلة أن لغزة وضع خاص غير بقية العالم فكيف يصورون في هذه الظروف؟
غزة هي واحدة من أكثر الأماكن التي يصعب الوصول إليها على وجه الأرض، حيث تحد البلدان المجاورة كإسرائيل ومصر من حرية التنقل بشكل صارم.
ولم يغادر العديد من الفلسطينيين الذين يعيشون هناك قط قطعة الأرض التي تبلغ مساحتها 140 ميلاً مربعاً.
نشأت خطة العرض في عام 2010، وخلال حرب عام 2014 في غزة بين حكامها من حماس وبين إسرائيل، قرر المديران أنه ينبغي عليهم العمل على العرض.
وقال المدير المشارك جوليان ماينارد سميث، إن ورش عمل العمل أقيمت بحيث يمكن للفنانين والممثلين الفلسطينيين في لندن استخدام التكنولوجيا في ورش العمل المشتركة.
وقال "وجدنا في وقت مبكر جداً مع ورش العمل، أن الأمر كان مؤثراً جداً".
ويحصل المشروع على تمويل من منظمات الفنون والثقافة، بما في ذلك مؤسسة عبدالمحسن قطان البريطانية- الفلسطينية.
كان العمل في ظل هذه الظروف المرهقة شاقاً. وكان على الفريق أن يحصل على مُولِّد، لأن غزة تعاني من انقطاع الكهرباء لمدة 20 ساعة. وكان لدى المجموعة مشكلات في جلب المعدات، في ظل القيود الشديدة على الواردات، التي تقول إسرائيل ومصر إنها لأسباب أمنية.
وحاول أحد المصممين العاملين مع المجموعة الحصول على تأشيرة لتركيا لمدة خمس سنوات. وقد تمكن أخيراً من المغادرة إلى إسطنبول قبل يوم من بدء البروفات.
والمؤسف أن الأمور ازدادت سوءاً والعنف بلغ حداً مدمراً، ولكنهم قرروا استغلال الموقف
ولكن لم تكن هذه العوائق فقط، ففي الأسابيع التي سبقت العرض، عانت غزة من أشد أعمال العنف المدمرة منذ سنوات.
فخلال الشهرين الماضيين، قتلت القوات الإسرائيلية العشرات من الفلسطينيين وأطلقت النيران على الآلاف من المحتجين على طول الحدود. وأطلقت الحركات الفلسطينية في غزة قذائف صاروخية وقذائف الهاون على إسرائيل، والتي ردت قواتها بغارات جوية واسعة النطاق.
وقالت شقير-فيزوسو، إن الفريق قرَّر أن العنف الأخير يجب أن يتم إبرازه في العرض، وذلك على الرغم من أنها أضافت أن "وجود تجربة مشتركة في غزة لا يعني أن الجميع يشعرون بنفس الشعور".
ماذا عن المحتوى.. هل هو عمل درامي منضبط؟
لا توجد حبكة أو جدول زمني، حسب المخرج المساعد والمتعاون معهم في غزة، أمجد شبت، الذي يقول "يتعلق الأمر أكثر بالفنانين الذين يستخدمون منازل بعضهم البعض، والشوارع، وأماكن العمل لمشاركة قصصهم الشخصية ومنظور حياتهم".
الفنانون الفلسطينيون المشاركون في العمل القادم ليسوا ممثلين محترفين، ولكنهم من المجتمع الإبداعي في غزة، بما في ذلك موسيقِيٌّ وراقصة. وقد ساعدوا في صياغة العرض، وهو شبه سيرة ذاتية لهم.
وقالت شقير-فيزوسو "كان من المهم لنا عدم إرسال نص مسرحي أو تصميم أداء تام ومنضبط. لأن ذلك أمر متغطرس، إنه استعماري بدرجة ما. لقد أردنا العمل بشكل تعاوني".
ويركز أحد المشاهد على تكاليف المعيشة في المكانين، بينما يتناول البعض الآخر الزواج والأطفال وعدم قدرة الفلسطينيين المحاصرين في غزة على السفر.
وقد طورت الفرق في كلا البلدين روابط عميقة، خلال سنوات من التفاعل عبر قنوات الفيديو الحية، كما يقول شبت.
"بالنسبة لي، يمنحنا هذا المشروع مساحةً لتجربة أماكن مختلفة. أحياناً في البروفات ننسى المكان الذي نحن فيه".