قبل أذان المغرب، تجتمع بعض الأسر في القلعة الصفراء، حيث الإطلالة الفريدة من نوعها لكامل مدينة سراييفو. يمكن للسكان المحليين في هذا المكان إحضار طعام الإفطار، فتختار كل أسرة واحدة من الطاولات المنتشرة، وتبدأ كل منها في تجهيز الوجبات.
القلعة الصفراء التاريخية هي أروع مكان يمكن أن تتناول فيه طعام إفطارك، فهي تمنحك الإطلالة الأروع على المدينة.
كل ليلة، ومن هذه البقعة تحديداً، ينطلق مع ارتفاع صوت الأذان صوت مدفع تسمعه المدينة بأكملها، مُعلِناً أنَّ الوقت حان لتناول طعام الإفطار. يعود هذا التقليد إلى القرن العشرين. غير أنَّه لم يكن يُمارَس في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، حين كان إطلاق المدفع محظوراً، ثم أعيد إحياؤه عام 1997، بعد عامين من حرب البوسنة والهرسك.
سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك. هي ليست بالمدينة الضخمة، هي عاصمة صغيرة مقارنةً بغيرها من العواصم الأوروبية. ترك الحكمان العثماني والنمساوي-المجري بصمتهما على الطراز المعماري في مدينة سراييفو. يمكنك مشاهدة هذا بوضوح على بعد 5 دقائق من القلعة الصفراء حيث تقع منطقة باشتشارشيا القديمة.
وعلى الرغم من أنَّ المدينة هيمنت عليها قوى عظمى، بجانب الحرب التي هزت أركان البوسنة والهرسك خلال تاريخها الحديث، نجحت سراييفو في الحفاظ على طابع متعدد الثقافات يجمع كل مواطنيها فخورين.
في هذه المدينة تجد أن أبراج المدافع أصبحت محل تجمُّع لكافة الأعراق، مكانٌ يمكنك منه أن تطل على المدينة بأكملها. أحد هذه الأبراج هو القلعة الصفراء، التي أصبحت رمزاً لشهر رمضان في سراييفو.
الصمون: رائحة رمضان الحقيقية
يتميز شهر رمضان في سراييفو بنوع من المعجنات التقليدية يدعى "الصمون". ورغم أنه يمكنك شراء هذا الصنف من المعجنات في أي وقت من العام وليس خلال شهر رمضان فقط، غير أنَّ رائحتها ومذاقها المميز ينتشران في الشهر الكريم بصورة واضحة.
لهذا السبب، يعتقد سكان سراييفو أنَّ رائحة الصمون التي تغمر المدينة هي الرائحة الحقيقية لرمضان. لن تجد مائدة إفطار واحدة في البوسنة تخلو من الصمون؛ ولهذا تمتد صفوف الناس خارج المخابز بطول الشارع على مدار الشهر بأكمله.
يستغرق هذا النوع من المعجنات ما بين 45 ثانية إلى دقيقتين للنضج، وتُصنَع من الماء البارد والدقيق الممزوج بالخميرة. وبعد تشكيل العجين، تُستخدم شبكة معدنية فريدة لصنع شكل زخرفي محدد أعلاها. هذه الخطوط أعلى العجين ليست مجرد زخرفة، لكنَّها حيلة بسيطة لتجنب احتراق الصمون الذي يُخبَز في فرن خشبي ضخم.
وتشتهر سراييفو بمعجناتها منذ ما يزيد على 600 عام. وقد صُنِع الصمون لأول مرة حين أمر غازي خسرو بك، أحد أمراء البوسنة والهرسك، بصنع كعكة بسيطة رخيصة ولذيذة يمكن تقديمها لضيوفه، وللفقراء، ولكل من يرتاد imaret (مطبخ عام يقدم الطعام للفقراء في العصر العثماني).
ويتسم رمضان في سراييفو بطبق مميز آخر هو "توبا"، أحد المقبلات التي يمكن تناولها مع الصمون. وعادةً ما يُستخدَم "توبا" كغموس للصمون، وهو طبق لا غنى عنه على مائدة الإفطار في سراييفو. ويُصنَع التوبا من القيمر (منتج لبني كريمي يشبه الكريمة المتخثرة)، والزبد، إضافة إلى أنواع مختلفة من الجبن. وتُمزَج كل المكونات معاً في وعاء لمدة 5 دقائق ثم يصبح الطبق جاهزاً.
الماء والتمر أولاً
حين يُضرب المدفع وينطلق الأذان، يتناول الصائمون أولاً رشفة ماء وتمراً، يليهما توبا والصمون؛ أكثر طبقين تقليديين لا ينفصلان في وجبات الإفطار.
وبعدها، يُقدَّم الطبق الرئيسي بحسب المذاق وخطط ربة المنزل. ويجتهد كل منزل في صنع أطباق شهية وإثراء مائدة إفطاره قدر الإمكان.
غالباً ما يُدعى الكثير من الأصدقاء والأقارب لمشاركة الإفطار، وعلى الأرجح سراييفو هي إحدى الأماكن القليلة التي يلبي فيها المسيحيون الأرثوذوكس والكاثوليك الدعوة لتناول الإفطار.
إذا لم تكن تفضل الخيارات المنزلية، فأغلب مطاعم سراييفو لديها قوائم طعام ممتازة بأسعار مناسبة في العموم. يبقى أن تقرر أنت ما ستتناوله والمناخ الذي تفضل تناول إفطارك فيه.
صلاة التراويح ضرورة
ولأنَّ رمضان يُعَد شهراً مقدساً للمسلمين في العالم كله، فمن الشائع أنَّ يتردد مسلمو البوسنة بصورة أكبر على المساجد خلال هذا الوقت من العام. وتُعتَبر صلاة التراويح ضرورة تقريباً في سراييفو يلبيها الكبار والصغار على حدٍ سواء.
ويمكن لكل مَن يستطيع أن يزور مسجداً مختلفاً كل ليلة. على سبيل المثال، إذا ذهبت لمسجد غازي خسرو بك الليلة، فيمكنك أن تصلي تراويح الغد في مسجد الإمبراطور، وبعد غدٍ في مسجد علي باشا، وهكذا. وعقب الصلاة، وخلال أمسيات الصيف، يذهب الناس في نزهة طويلة ويستمتعون بالقهوة والحلوى في منطقة باشتشارشيا.
للسحور نكهة أخرى
وما يؤكد أنَّ سراييفو هي بالتأكيد واحدة من أفضل المدن في أوروبا للاستمتاع بشهر رمضان هي المطاعم والمقاهي العديدة حيث يمكنك استقبال السحور.
ينتظر سكان سراييفو السحور في المقاهي المحلية حيث يمكنهم تناول القهوة والاستمتاع بالنارجيلة ووضع خططٍ للسحور والإفطار. ويمكث الكثيرون على المقهى إلى أن يبدأوا صيامهم، ويزورون أحد المساجد القريبة للصلاة، ثم يعودون للمنزل.
ما يميز شهر رمضان في سراييفو، بجانب الصيام والصلاة وطبقي توبا والصمون، المساجد الجميلة وأبراج المدافع والنزهات الليلية التي تسودها أجواء من القداسة والضحك.