حيثما تسير في الطرق السريعة المكتظة بالسيارات وسط القاهرة، سيلفت نظرك اللافتات العملاقة، التي تَعد بمنحك أسلوباً جديداً للحياة. تنتشر الإعلانات التي تتحدث عن تجمعاتٍ سكنية مُغلقة ببوابات، تحمل أسماء من قبيل "The Regent's Park" أو "Beta Greens" أو "Uptown"، وتَعِد المشترين بأن تحيطهم المساحات المفتوحة الخضراء من كلِّ اتجاه. بل إنَّ أحد الإعلانات المنصوبة على جانبي طريقٍ مركزي مزدحم وملوث يدعو الناظرين إلى "الاسترخاء والتنفس بعمق".
بالنسبة لأولئك الذين يقطنون العاصمة المصرية، هم يعرفون مدى المشكلات التي تواجههم، الزحام المروري الخانق، ونقص المساحات الخضراء، والهواء الخانق، والضوضاء الشديدة. نحن نتحدث هنا عن أكثر من 23 مليون نسمة في القاهرة الكبرى.
غير أنَّ هذه الوعود بالفرار من زحام القاهرة إلى حياةٍ جديدةٍ في محيطها على بعد 40 كم، هي مفصلةٌ على مقاس مَن يملكون ما يكفي من المال لسداد الثمن، حسب ما أوضح تقرير لصحيفة Guardian البريطانية. ويتجلَّى ذلك في أوضح صورةٍ في اللافتات التي تعلن عن "Entrada"، المجمع السكني والتجاري في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، التي لا تحمل اسماً محدداً حتى اللحظة. يروج مصممو المشروع له باعتباره "مدخلاً إلى مدينة جديدة، ونمط حياةٍ جديد، ومجتمع جديد، ومحط اهتمامٍ عالمي".
العاصمة الجديدة تعدك بحياة أفضل
تمتد العاصمة البديلة على مساحةٍ قدرها 700 كيلومتر مربع، بمساحةٍ تقارب مساحة سنغافورة، وصُمِّمَت لِتَسَع ما يصل إلى 5 ملايين شخص. وتُظهر خطة العاصمة الجديدة مساحةً واسعةً من الأبراج الشاسعة والمباني السكنية، وكذلك حي حكومي، وجميعها تتمركز حول "نهرٍ أخضر"، وهو توليفةٌ من المياه المفتوحة والمساحات الخضراء المزروعة، تبلغ مساحتها ضعف مساحة سنترال بارك في نيويورك.
تتسم القاهرة بعشوائية واضحة في التخطيط العمراني والبنى التحتية، هذا الأمر تم تلافيه في العاصمة الجديدة، التي صُمِّمَت بصورةٍ تتلافى تماماً مشكلات القاهرة، وتوفر مستقبلاً جديداً مشرقاً.
لكن الأسعار لمن يملك المال فقط
دُعِيَ الصحفيون خلال زيارتهم للموقع، في أكتوبر/تشرين الماضي إلى الاطلاع على بناء أكبر كنيسة في مصر، ومبنى جديد لمجلس الوزراء، ووقفوا يتطلّعون إلى موقع بحيرة مزخرفة راكدة ستقام في المستقبل، بينما كانت هناك طائرتان عسكريتان تؤديان استعراضاً احتفالياً من فوقهم. وتظهر صور مشروع Entrada فيلاتٍ فسيحة، ملحق بها حمامات سباحة ملتفة، وتستعرض الصور كذلك قرب تلك الفيلات من الأراضي الطبيعية والمتنزهات الملحقة بالمشروع، التي تبلغ مساحتها 4 كيلومترات. ووضع سعرٌ قدره حوالي 70 ألف دولارٍ أميركي لشقةٍ من غرفتي نوم تُطل على "البحيرة"، وبها حدائق خاصة وغرفة للخادمة.
ورفض المتحدث باسم المشروع خالد الحسيني ذكر إجابةٍ محددة حول مقدار الشقق السكنية ذات الأسعار المعقولة التي ستحتويها العاصمة الجديدة، ومتوسط أسعار العقارات فيها. وقال وفي صوته شيءٌ من خيبة الأمل: "انسَ الأرقام، فهي ليست مهمة ولا ثابتة. لدينا حلمٌ ونحن نبني أحلامنا الآن".
ويقول الحسيني: "لا توجد ميزانية إجمالية للمشروع؛ فهو مشروعٌ كبير وعظيم، غير أنَّ علينا أن نحسب كذلك تكلفة بناء بنية تحتية". ويُضيف أنَّ الشركة تأسست بضخٍ نقدي لنحو 204 مليارات جنيه مصري (ما يعادل حوالي 10 مليارات دولار) من وزارة الدفاع ووزارة الإسكان، غير أنَّه يؤكد أنَّ المشروع سيستمر دون الحاجة إلى مزيدٍ من الدعم الحكومي.
ويقول الحسيني إنَّ هناك نوعين من الميزانية: "الميزانية المذكورة في المستندات والميزانية الفعلية التي علينا دفعها". ويقول إنَّ الشركة سددت بالفعل 20 مليار جنيه مصري إلى البنوك (حوالي مليار ونصف المليار دولار أميركي)، بالرغم من أنَّ مصدر تلك الأموال لا يزال غير واضح، وكذلك هوية الجهة التي ستُسدد في نهاية المطاف ثمن ما تبقّى من تلك المباني الشاهقة التي تظهر في الخطط.
ويؤكد الحسيني أنَّ ميزانية العاصمة الجديدة ستُحدَّد على أساس "كل حالةٍ على حدة"، مع الانتهاء من إنشاء كل جزءٍ فيها. والمفارقة أنَّ مصر قبلت قرضاً طارئاً من صندوق النقد الدولي يقدر بـ12 مليار دولار عام 2016.
والعاصمة الجديدة ستؤثر سلباً على القديمة
ستستنزف العاصمة الجديدة موارد مصر الشحيحة بالفعل. فستضخ محطتا مياه ما يقدر بـ200 ألف متر مكعب من الماء يومياً إليها، لتسحب المياه من المدن القريبة التابعة للقاهرة. وبمجرد اكتمال المشروع سيستهلك ما يقدر بـ1.5 مليون متر مكعب من الماء يومياً.
ويقول الحسيني: "في البرازيل كانت العاصمة ريو، ثم أصبحت برازيليا؛ هذا ما نحتاجه. أجل سيكلف هذا مليارات، نعرف ذلك، ولكننا نحتاج إلى ذلك"، في إشارةٍ إلى مشروع أوسكار نيماير ولوسيو كوستا لبناء عاصمةٍ جديدة في البرازيل، الذي يُنظَر إليه الآن باعتباره أحد معالم الفشل في التخطيط العمراني ومضرب الأمثال لانعدام المساواة.
والأمل معقودٌ على أن تضم عاصمة مصر الجديدة ما يقرب من ضعف سكان برازيليا، والمفارقة هنا أنَّ من سينتقلون إليها يقصدونها للفرار من ازدحام شوارع القاهرة.
ولا توجد سوى ضماناتٍ معدودة على أنَّ ارتفاع ثمن العقارات السكنية سيسمح بوصول طبقاتٍ أخرى سوى الطبقة العليا من سكان القاهرة للسكن في العاصمة الجديدة، ويُعَدُّ المشروع عرضةً لخطر أن يصبح مشروعاً مربحاً لا يجد زبوناً، على نحوٍ يشبه "مدن الأشباح" في الصين. ويخصص خصمٌ مقداره 25% لموظفي الحكومة، غير أنَّ متوسط سعر المتر المربع وفق تقديرات الحسيني يبلغ 8000-9000 جنيه مصري (ما يعادل حوالي 451-508 دولارات أميركية)، وهو سعرٌ يفوق بكثير قدرة الموظف العادي في القطاع الحكومي المصري، الذي يتقاضى راتباً أسبوعياً لم يزد عام 2016 على 1154 جنيهاً مصرياً (65.16 دولار أميركي).
ومن المقرر أن تُنقل معظم المباني الحكومية وكذلك المباني التي يشغلها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى هناك، في يونيو/حزيران عام 2019. وتشجع الحكومة السفارات الأجنبية على الانتقال إلى هناك، وتستدرج الشركات إلى هناك، من خلال إقامة حيٍّ كامل للشركات يتألف من 20 ناطحة سحاب، تشيدها شركاتٌ صينية. ولكن، ماذا سيحل بالعاصمة القديمة بمجرد أن تُثبت الجديدة أركانها؟
وماذا عن المباني الفارغة وسط العاصمة القديمة؟
إذا نجحت خطط الحكومة، فإنَّ هذا الانتقال سيخلّف وراءه شبكةً من المباني الفارغة، جميعها مملوكة لنفس الشركة التي تمتلك العاصمة الجديدة، ولا خطة في الوقت الراهن للتعامل مع تلك المباني. تُشكل العاصمة الجديدة بالنسبة للحكومة بدايةً جديدة، تدرّ عليها ثروةً من العاصمة القديمة.
حاول الحسيني الإسهاب في الشرح الشهر الماضي، من داخل المكاتب الزجاجية لشركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية، التي تشرف على المشروع. يمتلك الجيش المصري 51% من الشركة، والحسيني نفسه جنرالٌ سابق في الجيش المصري، والأمر ذاته ينطبق على الأرض التي سيُقام عليها المشروع. أما سائر أسهم الشركة فمملوكة لوزارة الإسكان المصرية. ويقول الحسيني إنَّ الشركة تعمل كمظلة لإدارة أعمال الإنشاء في العاصمة الجديدة، وبعد اكتمالها ستتولى المباني الفارغة في القاهرة.
وأضاف: "على سبيل المثال، تمتلك وزارة الإسكان مبنًى أو عدة مبانٍ في وسط القاهرة. تمنحهم الشركة مبنى جديداً في العاصمة الجديدة، مبنى ذكي ومتصل بالإنترنت ومُزود بمكيفات الهواء ومُواكب للعصر، وتأخذ منهم المبنى القديم. ونحن نعمل على تأسيس شركة جديدة لإدارة جميع المباني التي سنتسلّمها من جميع الوزارات".
ولا يزال الغموض يحيط بمستقبل المباني الكثيرة التي تشكل البنية التحتية الكثيفة للدولة، التي يقع معظمها في عقاراتٍ ذات موقع متميز في وسط القاهرة. ويقول الحسيني: "لا نملك خطةً واضحةً لكيفية استثمار تلك المباني، غير أنَّنا سنصلحها ونجد طريقةً للاستثمار فيها. ربما نحولها إلى فنادق".
ستعود الأرباح الناتجة من هذه المباني المُخلاة إلى الشركة. غير أنَّه لا يزال من غير الواضح أيضاً مقدار المال المُنفَق على العاصمة الإدارية الجديدة؛ فقد وضعت لها تكلفةٌ أولية قُدِّرَت بحوالي 45 مليار دولار أميركي عام 2015.
النمو السكاني يزداد لكن المدن الجديدة بها مشكلة
ليس ثمة شك في أنَّ النمو السكاني سريع التزايد في القاهرة، يحتاج بشدة إلى مشروعاتٍ سكنية جديدة لاستيعابه. إذ زاد عدد السكان نصف مليون عام 2017، ما يجعل القاهرة أسرع المدن نمواً من ناحية السكان. وبدءاً من منتصف عام 2016، ضمَّت القاهرة الكبرى 22.9 مليون شخص، ومن المتوقع أن تحتوي 40 مليوناً بحلول عام 2050. غير أنَّ المدينة محاطةٌ بمجموعةٍ كبيرة من المدن الجديدة شبه الخاوية، كل مدينة منها تمثل فشل منشئيها في جمع زخمٍ كافٍ حولها لجذب شريحةٍ واسعة من السكان بعيداً عن وسط القاهرة.
ويقول محمد الشاهد، المخطط العمراني المصري ومحرر صحيفة The Cairo Observer: "تقدم المدن الصحراوية الموجودة حالياً في القاهرة خدماتها بالأساس لعلية القوم في البلاد؛ وجميعها تحتوي إسكاناً اجتماعياً كجزءٍ منها، غير أنَّ هذا لا ينفي أنَّها نسبةٌ ضئيلة قياساً إلى الحجم الضخم المتوقع للمشروع العقاري؛ وهو ما تتمحور حوله العاصمة الجديدة في الحقيقة".
ويمكن للعاملين الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة الانتقال إلى العاصمة الجديدة استخدام مشروعي القطار الكهربائي، وقطار السكة الأحادية، المقترحين للوصول إلى أعمالهم، غير أنَّه لا توجد ضمانات بأنَّ وسيلتي النقل هاتين ستكونان بأسعارٍ تنافسية كذلك. ويقول الشاهد: "لكي تنجح العاصمة الجديدة، وإذا كان هدفها فعلاً تقليل الزحام المروري، فإنَّ هذا لن يتحقق بمجرد نقل بضعة آلاف من الموظفين، فمعظم موظفي الحكومة لا يملكون سيارات، لذا يبدو أنَّهم ليسوا السبب في الازدحام المروري في وسط القاهرة".
غير أنَّ الحسيني مصرٌّ على أنَّ رؤيته وحدها ستُغري عدداً كافياً بالانتقال إلى العاصمة الجديدة، بما في ذلك السفارات الأجنبية والعاملون فيها. ويقول: "سنمنحهم مزايا غير متوفرة في القاهرة القديمة، شوارع واسعة ومدينة ذكية". ثم يواصل حديثه ليرسم صورةً شديدة السوداوية: "ونعني بالمدينة الذكية مدينةً آمنة، مزودةٌ بالكاميرات وأجهزة الاستشعار في كل مكان. وسيكون هناك مركز تحكم لتسيير أمور المدينة بأسرها".
حتى السفارات الأجنبية مترددة في الانتقال
وتقول متحدثة باسم السفارة البريطانية في القاهرة، إنَّه في حين خصصت الحكومة المصرية مساحةً للسفارات، فإنَّ السفارة "تدرس الموقف" في الوقت الراهن. وكذلك ما زالت سفاراتٌ أخرى، تواصلت معها صحيفة The Guardian البريطانية مترددة بشأن هذا الأمر، غير أنَّها لم تكن مستعدةً للتعبير عن ترددها ومناقشته علناً.
ويقول الحسيني: "القاهرة غير مناسبة للشعب المصري. هناك ازدحام مروري في كل شارع، والبنية التحتية غير قادرة على استيعاب السكان، كما أنَّها شديدة الزحام. وبسبب غياب خطةٍ رئيسية محددة، بدأ القبح يتسلل إليها… وانعدمت فيها ملامح الإنسانية".
لا شك أنَّ ازدحام القاهرة تسبَّب في تفكير سكانها في الهرب منها، مع أنَّ الشوارع الواسعة والنوافذ المزودة بالزجاج العازل والمياه المفتوحة والأشجار المشذبة تبدو أقرب إلى أحلام لندن وشيكاغو، منها إلى أفكار ملائمةٍ للسهل الصحراوي.
غير أنَّ الحسيني متمسكٌ برأيه، إذ يقول: "نحتاج إلى معلمٍ بارز، إلى عاصمةٍ جديدة. من حقنا أن نحلم، وهذا حلمنا".