ليلة وصولها إلى السعودية عام 1988. دوار من شدة الحرارة، وإحساس غريب بالملاذ حين صحبها والدها إلى متجر الأشرطة الموسيقية في شارع الملك خالد بالخُبر.
هكذا تبدأ الصحفية البريطانية من أصل عراقي، أروى حيدر، ذكرياتها عن تلك الأيام، عندما كانت أشرطة الكاسيت وحدها تقدم محتوى موسيقياً ودينياً، وتشارك في تشكيل وعي جيل بأكمله.
الكاسيت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي قدَّم للشباب السعودي نسخةً ممنوعةً عن أنواع الموسيقى في الغرب، رغم أنف الرقابة وقتها.
الهيب هوب في متاجر السعودية
تصف أروى حيدر في شهادتها كيف كان شبان السعودية يتوجَّهون إلى متاجر صغيرة في الأسواق المحلية، لا تلفت النظر إلى منتجاتها، ولكنها كانت تبيع لمحات من المشهد الموسيقي الغربي آنذاك.
البوب، والهيب هوب وغيرها، والصول، وغيرها من المصنفات، جلبت معها فرقاً غنائية ونجوماً، جسَّدوا كلَّ ما كانت السعودية تمنعه وتخشاه.
لكن التضييق على الموسيقى الأجنبية قابله استثمار شركات سعودية في الإنتاج الموسيقي العربي، أشهرها مجموعة روتانا.
والمطربون السعوديون في القاهرة ودبي
وانتشرت أصوات مغنين سعوديين كانوا يقيمون حفلاتهم خارج السعودية في دبي ومصر ولبنان، ليقصدهم جمهورهم السعودي. نذكر منهم محمد عبده، وخالد عبدالرحمن، وراشد الماجد، وعبدالمجيد عبدالله، وعبادي الجوهر، ورابح صقر.
عاشت حيدر، المتخصصة بالشأن الموسيقي، تلك الحقبة في مدينة الخُبر بالمنطقة الشرقية بالسعودية، إذ التحقت بوالديها، اللذين كانا يعملان طبيبين في مستشفى محلي، عندما كانت 13 عاماً فقط.
متمردون يشترون نسخ الأشرطة المقلدة
وفي مقال على موقع BBC، قدَّمت حيدر لمحة عن سلوك الشبان في تلك الفترة ومحاولاتهم للتمرد على خطر الموسيقى، التي كانت يوماً ما مسموحة ويتم تدريسها في السعودية.
تعرفت على عدة محلات لبيع هذه الأشرطة المحظورة. محلات بلا أسماء وعلى شكل أكواخ، وعشرات الأشرطة غير المرخصة وتسجيلات منسوخة لأحدث الإصدارات الغربية.
كانت تباع في عبواتٍ مكتنزةٍ "مقاومةٍ للحرارة"، وهي الصورة المثالية لبيع الأشرطة، لأنَّه يمكن للفينيل الموجود في الشرائط أن يذوب تحت أشعة الشمس. حتى الأقراص المدمجة كانت لا تزال غريبةً.
وسوق الموسيقى يزدهر رغم الإنترنت
سعر الأشرطة السعودية المنسوخة زهيد للغاية، فوصل ثمن الواحد منها إلى 10 ريالات، أي ما يعادل 2.1 دولار تقريباً. ولأنَّها كانت تُسجَّل على أشرطة من نوع C90 (وهذا أطول بكثيرٍ من أي ألبوم)، كانت تقدم أغاني إضافية أخرى، ما كنت لتجدها في متاجر بريطانيا.
كل شيءٍ كان غير رسميٍ، بلا رخص، ولكن مزدهر. ووصل حجم قطاع الإنتاج الفني والتوزيع حجم سوق التسجيلات الصوتية في السعودية إلى نحو ملياري ريال عام 2011، بما يشمل أشرطة الكاسيت والأقراص المدمجة CD للمطربين العرب والأجانب.
تفتح المتاجر أبوابها يومياً، وتغلقها في أوقات الصلوات. كانت المتاجر تكتظ بالرجال قليلي الكلام (الرجال مرحبٌ بهم أكثر عادةً)، وكانت المتاجر كذلك صامتةً تماماً؛ لأنَّ سماع موسيقى البوب علناً كان ممنوعاً، ما جعلها تبدو أسطوريةً، أماكن الرغبات المكتومة.
لكن مع ذلك انتشرت ثقافة البوب بسرعة في عصر ما قبل الإنترنت ذاك، وفور أن تنجح أغنيةٌ ما في الغرب، كانت تُحدِث رد فعلٍ في الشارع السعودي.
ويزهو ببريق المقاومة المستترة
تقول حيدر: "كنا نقرأ عن تلك الأغاني في نسخٍ مستوردةٍ وباهظة الثمن من مجلات Smash Hits، وNew Musical Express (وبتمزيق سلطة الرقابة الدينية حرفياً لأي صورٍ غير محتشمة، كانت الألبومات الموسيقية تخضع لرقابةٍ مماثلةٍ). وكنا نقتفي أثر محطات الراديو البحرينية التي كانت تذيع أغاني بريطانية (إذ يمكن للمقيمين في مدينة الخُبر الساحلية التقاط بثٍّ من دولٍ خليجيةٍ مجاورةٍ أقل تحفظاً)".
الشيء الذي ربما يكون قد فُقِد مع تلك المتاجر القديمة المتسخة هو بريق المقاومة المستترة. أثبتت أشرطة الموسيقى المنسوخة في السعودية أنَّ الموسيقى قوة حياةٍ غير متوقَّعةٍ، يصعب كبحها، حتى في أشد الظروف تقييداً.
كانت حيدر تتبادل مع زميلاتها أشرطة الموسيقى تحت ألواح الأرضية المهترئة، بغفلة عن المعلمات. وفي مرة رأتها معلمة الرياضات تنقش اسم فرقتها المفضلة على السقف "Pet Shop Boys"، فطلبت منها أن تقف على الطاولة وتمحو كلمة "Boys" (فتيان) بزجاجةٍ من سائل التصحيح.
ثم استُئنِف الدرس، وفوق صف الفتيات تظهر كلمة "بيت شوب" أو متجر الحيوانات الأليفة.