قد مضت سنَّة الحياة بأن تكون لكل شيء بداية ونهاية، فأعمالنا وخدماتنا ستزول بشكل مفاجئ، لا تمنحنا الفرصة أن نفكر بقيمتها وأبعادها، وحكايات نضالنا المفرغة آنفاً من صرح القدسية الابتدائي، ماضيةً نحو خندق اللاوجود، فالإنسان خلق على هذه الأرض على نحوٍ مؤقت، وعليه كل ما يتصل به هو مؤقت، علماً أن هذا الاتصال المرحلي المؤقت ينبع من صميم المبادئ الوقفية ذات الرصانة الداخلية بتمثيلها لجوهر الروح الواقعي الملموس.
المبدأ هو جزءٌ أساسي لا يتجزأ عن الإنسان، حيث ينطلق بأفكاره وتوجهاته وقراراته، وعلى أساسه يتقبل أولاً المتغيرات، لا سيما أنه تربى ونشأ عليه، فأصبح من الصعب جداً -بل من المستحيل ربما- التخلي عنه، وخصوصاً أنه يعتبره قضية، وموقف، ورؤيا، وقناعة، واعتقاد، وهذا المبدأ عميق بجذوره أي لا يمكن اعتباره من القيم المضافة المتفرعة، وهنا تجدر الإشارة بالقرار الحاسم لتحديد المسار الممتد في كل تفاصيل حياته وبعد مماته، ومراعياً بدقة الأضواء الثابتة التي يمشي على هديها من خلال ما يستمده من مقومات القوة العقلية، متخذاً السلوكيات المتجذرة بوصلةً للتعامل التعايشي، مصنفاً الأولويات والفرعيات داخل منظومة الحسابات التربوية.
نحن خُلقنا من روح وقلب ومشاعر وأحاسيس، وهذه الموسيقى المتنوعة تدفعنا إلى الإقرار بماهيتنا التي تؤكد أننا لسنا أحجاراً لا نحب، ولا نشتهي، ولا نرغب، ولا نتلذذ، فطبيعة الإنسان تحب الرغد والنفوذ والسلطة، وهي فطرة إنسانية مسيرة النطاق وضعها رب العباد في أحشاء العباد، لكن بالمقابل حدد لكل من هذه الزوايا الفطرية مضماراً معروفاً منبعه، وإلى أين يصل مداه، ليختتم مشواره في المصب الذي اقترن بحقوقه وواجباته.
لكن للأسف الشديد نرى اليوم الكثير ممن صار عبداً ذلولاً للمناصب السياسية فقبل بتجارة السياسة مقابل الوظيفة الإلهية التي يعيش من أجلها، وهي إحياء الإنسان وبناء العمران فساء استخدام السلطة بشتى الوسائل.
من هنا كان من الضروري أن نفكر بواقعية، فرفاهية ومغريات وملذات وطيبات الحياة كثيرة، ومناصب ومواقع الدنيا أكثر، وكلٌ يحاول جرّنا بحلاوته المؤقتة إلى تقديم تسهيلات، ثم تنازلات متكررة، فالتفريط بالمبادئ شيئاً فشيئاً، وهذا ما يخالف أسلوب عيش النماذج المشرفة في العالم السياسي وأعظمهم رسول الله محمد "صلى الله عله وسلم " خير مثال للإنسان الذي يحترم مبدأه، ولا يرضى بالتنازل عنه مهما كلفه الأمر، ويرفض مراراً وتكراراً الانصياع أمام المغريات العظيمة التي تحاول جاهدةً نزعه عن الوظيفة التي خلق من أجلها.
فحينما قدم إليه شرفاء قريش وأسيادها وطلبوا من عمه أبي طالب أن يقنع النبي محمداً "صلى الله عليه وسلم" بترك رسالة الإسلام ودعوة الناس لاعتناقه، مقابل الحصول على المال والجاه والمكانة والسلطة والنفوذ، جاء الرد الحازم واضحاً صريحاً لا يقبل النقاش والتفاوض، واضعاً النقاط فوق الحروف دونما مبررات تثير الاحتمالات قائلاً: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته إلا أن يظهره الله أو أهلك دونه".
عندما تخلينا عن صفقاتنا الأخلاقية وغرتنا أهواء الحضارات الأخرى بزخرف شعاراتها، وكلامها المعسول على أنها جاءت لإنقاذنا وزيادة ثقافتنا، كنا مستعدين مسبقاً لتقبل كل ما يحملونه لنا دون معرفة أسرار ما جاءوا لأجله، بل كنا مؤيدين ومتمسكين بأفكارهم ومتقبلين لفنياتهم التكنولوجية، متناسين أننا من خلق الابتكارات وصنع الابداعات رسّاماً كنا لأعرق الحضارات العالمية التي تلاشت بفقداننا لمبادئنا الطاهرة ذات البعد المنطقي الفريد، فاقتبسوا هم منا مبادئنا السامية دون ذكر مصدر الاقتباس، فنسبوا حكايات النجاح لأنفسهم بجدارة وهم يستحقون ذلك لأنهم عرفوا بدهائهم ما يتبنون، وبقينا نحن مفرطين بكل ثمين مبهورين بجمال الحياة المؤقتة، متنازلين عن وظائفنا اتجاه هذه المبادئ، متساهلين بذلك عن جوهرنا، والنتيجة ضياع العراق والشام واستمرار مسلسل التيه العربي.
علمني أستاذي وليد عثمان أن "المنصب لا يصنع قيمة للإنسان، بل الإنسان من يصنع للمنصب قيمة"، حينها أثار الأفكار في أعماق تفكيري كيف للطبيعة الثنائية المحيرة أن تقود رغبات الإنسان المتعطشة للعيش بأفخر منظور، حتى وإن كان على حساب ما تنفسه عند الاستنشاق الأول للحياة، وبدأت رحلة إزالة الستار الغامض بتحليل الجوانب الروحية والمادية، والتعشيق بين الصراع الداخلي والخارجي بأرضية متوازنة تهذب المطالب وتراعي الحاجات دون طغيان إحداها على الأخرى، وخصوصاً في ظل غزو المتغيرات المتسارعة وثورة الاتصالات والمواصلات وتحول العالم إلى كرة صغيرة شائكة متداخلة الاختصاصات والثقافات، وصولاً إلى جولة من الاختبار، حيث المقاومة والتنازل ضمن ملفات قياس التوازن النسبي، ثم القرار النهائي للبداية الحتمية داخل هيكلية التربية الشخصية الناضجة التي من الضروري أن تطرح سؤالاً صريحاً مفاده، هل سنكون مبدئيين أم سنصرّ أن نبقى مؤقتين قبل الممات وبعده؟.. إجابتنا ستحدد مصيرنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.