التقرير كتبه الصحفي الأميركي بن هوبراد ونشره بصحيفة نيويورك تايمز الأميركية
وصلت إلى ميناء جازان –جنوب غرب المملكة العربية السعودية- في الوقت المناسب تماماً لأتمكن من اللحاق بالقارب. بعد شراء تذكرتي والتحقّق من جواز السفر الخاص بي من قِبل أحد الضباط، صعدت إلى قمرة القارب الصغيرة، والتي لم تضم سوى عددٍ قليل من الركاب الآخرين، مع وجود سجاد أخضر وببغاء وُضع في قفص ذي شبك حديدي، لتنطلق رحلتنا نحو ما قيل لي أنه أحد أكثر الأماكن سحراً في المملكة.
تبعد وجهتي القادمة 28 ميلاً عن الشاطئ، إنها جزيرة فرسان والتي تعتبر الأكثر غناءً بالتجمعات الرملية والشعاب المرجانية الملونة في البحر الأحمر التي تزين تلك الشواطئ البكر للجزيرة، وأيضاً أماكن الغوص الرئيسية، بالإضافة إلى أشجار وآثار تاريخية تعود إلى قرون مضت.
وكانت الرحلة بمثابة الدرس الأول فيما تعلّمته من السفر إلى بلد يمتلك مواقع سياحية محتملة، إلا أن الحكومة مازالت مترددة بشأن السماح للأجانب بزيارتها.
فأغلب من يصلون إلى الجزيرة يأتون من خلال عبّارات الركاب التي يتوارثها أهل المدينة عن الملك السابق للمملكة، إلا أنني تأخرت عن رحلتي، ما اضطرني في النهاية لقضاء ساعةٍ كاملة على مقعد خشبي في رحلة شاقة للغاية بأحد القوارب.
بعدما وصلنا، قمت بإنزال حقيبتي لأجد عدداً كبيراً من السيارات التي ملأها الغبار تتسابق لكي تنقلني، إلا أنني اكتشفت أنها لم تكن سيارات أجرة، حيث عرفت بعد ذلك أنه لا يوجد في الجزيرة أي سيارات أجرة من الأساس. لكنّ أحد الركاب في رحلة القارب، وهو طالبٌ بالأساس، كنت قد تجاذبت أطراف الحديث معه، أوصلني في نهاية المطاف إلى الفندق الذي سأقيم فيه.
لماذا لا تشجّع السعودية السياحة؟
في الوقت الذي تستثمر فيه دولٌ أخرى في المنطقة مثل مصر والأردن والإمارات لجعل السياحة ركيزة أساسية لاقتصادها، فإن السعودية تختلف تماماً في تلك النقطة، ولكن لأسباب تبدو مقنعة؛ فطبيعة البلد تتمحور بالأساس حول كونها مهد الدين الإسلامي حيث تضمُّ أكثر الأماكن قداسة في الإسلام، بالإضافة إلى تراثها ونظامها الإسلامي المرتبط تمام الارتباط بهويتها الدينية، وعاداتها التي تقضي بغلق أبواب المحلات في أوقات الصلاة، وارتداء المرأة للعباءة وعدم قيادة السيارات أو الاختلاط بالرجال، ومنع المسكرات، وهو ما يجعل المملكة مكاناً غير مرغوب في زيارته بالنسبة للكثير من الغربيين، وحتى في بعض الأحيان بالنسبة لبعض السعوديين الذي يفضّلون وجهاتٍ سياحية أخرى.
يُصرح المسئولون في السعودية دائماً أنهم ليسوا ضد الزوار الأجانب، حيث يقيم في المملكة أكثر من 10 ملايين أجنبي، في حين يأتي ملايين المسلمين للبلاد سنوياً بغرض تأدية المناسك الدينية، وبصفة شخصية، أرى أن السعوديين ودودون ومضيافون للغاية.
في الوقت الذي تعد فيه السعودية أكبر مصدري النفط في العالم، فقد عاشت البلاد فترة طويلة دون الاعتماد على أي دخل من السياحة ولم يكن لديها حاجة لجذب السياح للشواطئ أو السماح للنساء الأجانب بالقدوم فرادى، وغير تلك الأمور التي تخالف قواعد البلد المحافظ.
تاريخٌ عريق.. لا نساء بالبكيني
بيد أن المسئولين عن السياحة في السعودية يقولون إن المملكة تسعى حالياً للانفتاح، وإن كان وفق شروط معينة. ويقود قطاع السياحة في المملكة الأمير سلطان بن سلمان، نجل ملك السعودية، ويشتهر بالرحلات الشهيرة، فهو يعتبر أول عربي يذهب إلى الفضاء. وتعرض الدولة حالياً برنامجاً مميزاً للقروض للاستثمار في مجال السياحة.
تسعى السعودية في الوقت الراهن إلى تشجيع السياحة الداخلية، وتشجيع السعوديين على زيارة مناطق مختلفة في بلادهم، في حين لا يبدو قيام المملكة بإصدار تأشيرات دخول سياحية أمراً وشيكاً، حيث دخلت أنا على سبيل المثال لغرض آخر بالأساس وهو حضور مؤتمر ما باعتباري صحفياً وكاتباً عن منطقة الشرق الأوسط، وجدت كثيراً من الأماكن المذهلة التي أثارت لدي شعوراً بالبهجة لزيارتها.
في لقاء مع صلاح البخيت، نائب رئيس هيئة السياحة والآثار لقطاع الاستثمار، قال البخيت "لمن يحبون التاريخ والثقافة والطبيعة، هناك الكثير ليفعلوه هنا، إلا أنك هنا في السعودية، لن ترى النساء بـ"البيكيني" على الشاطئ".
على الرغم من الساحل الطويل الذي يبدو مثالياً في جزيرة فرسان، لا يوجد بالجزيرة كلها أي مطعم مواجه للشاطئ. كما أنه على الرغم من وجود كم هائل من الشعاب المرجانية، لا يقوم أحدٌ بتأجير معدات الغوص، إلا إن استطاع الزائر الحجز من وقت مبكر ليتم جلب تلك المعدات من مدينة أخرى.
لا يوجد سوى فندق وحيد على الشاطئ، وهو "منتجع كورال فرسان" (تبلغ تكلفة الإقامة فيه 400 ريال لليلة الواحدة وهو ما يعادل 107 دولارات أميركية)، وهو فندق صغير يحمل نجمتين فقط. وعلى الرغم من وجود رائحة تشبه مياه الصرف الصحي عند المدخل، فالغرف بدت نظيفة برغم بساطتها. وبعد دخول الفندق، وجدت نوافذ المطعم مغلقة، رغم اعتدال الطقس، فلم يكن هناك سوى رجل واحد يتناول طبقاً من الدجاج المقلي.
أردت تناول السمك، لذلك نصحنى محمد سايجال، وهو مدرس لغة إنكليزية محلي كنت قد تعاقدت معه للعمل مرشداً لي خلال الرحلة مقابل 1000 ريال يومياً، بأن نذهب إلى سوق الأسماك حيث قمنا بشراء سمكتين كبيرتين ما كلفني 80 ريالاً، وطلبت من البائع أن يقوم بشيّها. وبعد العودة إلى الفندق، لم يكن هناك أية طاولات في الخارج، لذلك قمنا بالسير حتى نهاية الرصيف الرملي، وجلسنا على الأرض لنتناول الطعام بأيدينا. والحق أقول، كانت تلك السمكة أفضل ما تناولته طيلة حياتي.
لا شيء تفعله بعد غروب الشمس
بعد تناول العشاء كنت قد أدركت حقيقة وحيدة بشأن السفر إلى السعودية: عندما تغرب الشمس، فليس ثمة الكثير لتفعله. لم يكن هناك سوى مجموعة من الرجال يلعبون الورق في ساحة الفندق، بالإضافة إلى أطفال يلعبون كرة القدم في الخارج، بينما توجهت أنا إلى الفراش مبكراً.
استيقظت مبكراً على صوت استعداد بعض الأسر السعودية للتوجه إلى الشاطئ، لذا أخذت جولة سريعة على الشاطئ قبل أن أجد نفسي وحيداً بعد عشر دقائق فقط في منطقة رملية خالية أمام مياه زرقاء صافية ليس بها أي علامات لوجود البشر تقريباً سوى بعض بقايا النيران على الشاطئ التي تركها بعضهم.
في هذا المساء، استأجرنا قارباً (كلفني 250 ريالاً للساعة الواحدة) وتجولنا حول الجزيرة، حيث تمكنا من رؤية بعض جزر الشعاب المرجانية طوال الطريق مع بعض أدوات الصيد والتزلج من حولنا. بعد ذلك، دخلنا إلى غابات المانجروف والتي أحاطتنا من الجانبين، حيث قفزت سمكة خضراء صغيرة أمام قاربنا، في حين شاهدنا العشرات من طائر البجع كبير الحجم التي كانت تستعد للطيران. في هذا الوقت، أوقف قائد القارب المحرك، كنا جميعاً صامتين ولم نسمع سوى صوت الأمواج وزقزقة الطيور.
توقفنا لرؤية أشجار المانجروف من الأعلى، والتي بدت كالأخاديد الخضراء وسط تلك الجزيرة الجافة. عندما سألت المرشد، الذي يبلغ من العمر 37 عاماً ولديه أربعة أطفال، إذا ما كان سكان الجزيرة يريدون استقبال السياح أم لا، فأخبرني هو أن ما يريده حقاً هو توفير إمكانيات أفضل للخروج من الجزيرة ودخولها. ففي الوقت الذي تسهم فيه العبارات في نقل القادمين، فإن نقل البضائع ومواد البناء يُكلف الكثير من المال، وهو ما أدى بصورة كبيرة إلى انحسار تنمية الجزيرة. كما أضاف أنه كان هناك حديث حول إنشاء جسر ومطار يخدم الجزيرة، لكن حتى الآن لا يوجد سوى تلك العبّارات والقوارب.
أضاف محمد أنه قلق للغاية من أن الجزيرة لا تحظى بالحماية الكافية، حيث صارت الغزلان التي كانت منتشرة في السابق على الجزيرة نادرة الوجود حالياً، ونفس الأمر بالنسبة للصقور والثعالب، فيقول "هناك الكثير من الإهمال".
توجهنا نحو البحر حيث أنزل الربان المرساة وأعطى لكل منا خيط سنارة ملفوفاً على بكرة بلاستيكية. علقنا الطعم بطرف السنانير وأرخيناها من على جانبي القارب.
وقال محمد "عندما تشعر بأن خيط السنارة يهتز، اسحبها من البحر".
وبعد لحظة فعلت مثلما أخبرني، واصطدت سمكة لونها وردي وعيناها بنيتا اللون، ويبلغ طولها حوالي ستة إنشات. وكانت تلك السمكة هي المحصلة الوحيدة لصيد دام حوالي عشرين دقيقة، والتي اصطاد خلالها محمد والربان ثلاث سمكات لكل منهما قاموا بشيّها وإعطائي إياها لتناولها على العشاء.
في الصباح التالي قابلت امرأتين أميركيتين عزباوتين ترتديان الـ"تي شيرت" وبناطيل "الكابري" القصيرة، وسألتهما بينما كانتا تجلسان على رمال الشاطئ عن تجربتهما في السفر باعتبارهما امرأتين أجنبيتين.
قالت المرأتان، اللتان تعملان معلمتين بإحدى المدارس الدولية، إنهما وصلتا بالطائرة إلى "جازان" ثم ركبتا العبّارة بنفسيهما من دون أية مشكلة، على الرغم من ذلك فقد طلبتا من أحد أصدقائهما الذكور أن يصطحبهما إلى المطار بالسيارة.
وكانت النصيحة التي أسدوها لمن أرادت القدوم أن تكون منفتحة على الثقافات الأخرى وألا تحمل أحكاماً مسبقة على الأشخاص، وأن تكون مستعدة لستر جسدها باللباس، وأن تحترم القواعد المتعلقة بالمرأة، وإن فعلت كل ذلك فسوف تتفاجأ بالترحاب الذي ستلقاه.
حيث قالت إحداهما "إن هذا يعد فصلاً بين الجنسين، إن أردنا التحديد، لكن السعوديين محبوبون ومضيافون وطيبون".
وأضافت قائلة إن كانت إحدى السائحات من المحظوظين فسيتم دعوتها إلى حفلة نسائية أو ما يعرف بالنسبة للسعوديات بـ"الجَمْعَة"، حيث توجد موسيقى ورقص وطعام وأزياء موضة، ولكن بدون كحوليات أو تبغ أو رجال.
عبرت إحداهما عن ذلك بقولها "مرحٌ جيد ولكنه نظيف".
معالم تتجه للزوال
قضيت أنا ومحمد هذا اليوم في زيارة بعض المواقع بالجزيرة. وفي إحدى القلاع العثمانية، التقينا مجموعة من مرشدي السياحة كانوا في وقت راحتهم يأكلون الفول ويطهون بعض الفطائر. كان الموقع يخضع لعملية ترميم، ولكن لم يكن ثمة أية معلومة عن تاريخه، والنوافذ كانت محطمة، فضلاً عن انتشار القمامة في محيطه.
زرنا "متحفاً مائياً" يتكون من غرفة واحدة ويمتلئ بعجائب البحر، بما في ذلك هياكل الدلافين، والمحاريات، وفك سمكة قرش وسلحفاة بحرية ضخمة مطلية بمادة لحفظها، بالإضافة إلى سيف مصنوع من الخرطوم الأنفي لسمك المنشار، حيث كان صاحب المتحف يخطط لإهدائه إلى الملك عبدالله قبل وفاته.
بيد أن أبرز اللقطات التي تدعو إلى الإحباط في ذلك اليوم عندما شرعنا في التجول حول بعض المجتمعات العمرانية المهجورة منذ عقود، والتي تتجه ببطء نحو الزوال. فقد تجولنا في أماكن بدت أنها كانت أحياءً مكتملة تحتوي على المنازل والحوائط الحجرية المقامة والعوارض الخشبية لجذوع النخيل، والتصاميم الهندسية المعقدة الموجودة بالمداخل. كثير من أسطح تلك المنازل تعرّض للانهيار في الوقت الحالي، وأشرفت من أرضياتها وفنائها الأشجار وعروش الكروم. كما امتلأ كثير منها بالقمامة، واحتوى إحداها على قطيع من الغنم.
حيث قال محمد "حالة تجاهل تامة".
ومع هذا، فلا يزال هناك بعض المتعة بتلك الأطلال الغارقة بين نخيل البلح، فقد خلا المكان تماماً من أي صوت فيما عدا صوت الطرْق البعيد الذي أحدثه أحد المقيمين أثناء محاولته بناء جزء من منزل.
أردت أن أكافئ نفسي بغداء لذيذ قبل أن أعود أدراجي إلى المكان الرئيسي، وقد سمع محمد عن فندق آخر يمتلك طاهياً جديداً، فذهبنا إليه ولكنهم أخبرونا أنه ينبغي علينا أن نطلب الطعام وننتظر ساعتين حتى يفرغوا من إعداده. لذا استبدلنا أحد المطاعم المحلية المشتركة بذلك الفندق، حيث استمتعت بوجبة دجاج وأرز لذيذة بالمطعم الممتلئ بالعمال والعُزّاب (فالمتزوجون يتناولون الطعام في منازلهم) واتضح لي أنني كنت الشخص الوحيد الذي يتناول الطعام بالملعقة بدلاً من استخدام يديه.
استقلت العبارة من الجزيرة ومرت عليّ الرحلة بكل سلاسة، فكنت أغفو قليلاً ثم أصحو وأشاهد الأطفال الذين يلعبون بالممرات. وكما هو معروف في الأماكن العامة بالسعودية، بما في ذلك سلسلة مطاعم هارديز ومقاهي ستاربكس، فالركاب كانوا منقسمين لصفين يميناً حيث تجلس العائلات و العازبات، ويساراً حيث يجلس العُزّاب. وقبل أن ألاحظ الأمر, وجدت نفسي أجلس بالمنتصف، ولم يبدو أن أحداً يهتم لذلك.
كانت محطتي التالية موقعاً يعتبره كثيرون تحفة الآثار السعودية، وهي "مدائن صالح" أو ما تعرف ب "مدينة الحِجر"، المستوطنة العتيقة للإمبراطورية النبطية التي تركت آخر أثر لها منذ ما يقرب من 2000 عام.
وأصبحت مدينة الحِجر أول منطقة أثرية سعودية تدرج بموقع منظمة اليونسكو، حيث اصطحب الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رائد الفضاء العربي، الأمير تشارلز عندما زار الأخير المملكة في العام الماضي.
ومع وجود مطار قريب من الموقع، اعتقدت أنه من المفترض أن تكون زيارتها أسهل بكثير من زيارة جزر فرسان. حيث يستقبل المطار أربع رحلات جوية أسبوعياً كما يخرج منه نفس عدد الرحلات القادمة إليه. لذلك عندما حصلت على تذكرة الطيران افترضت أن الأمور ستسير على ما يرام، ولكني سرعان ما اكتشفت أن الطائرة تحمل عدداً من الركاب يفوق قدرة استيعاب الفندق الرئيسي بالمدينة (فقد احترق الفندق الآخر منذ سنوات قليلة)، وكانت الغرف محجوزة بالكامل لتتركني بلا مأوى، إلا أنهم أخبروني بوجود خيمة بالصحراء يمكن المبيت فيها.
ولحسن الحظ، يعدّ السفر عبر خطوط الطيران السعودية، الناقل الوطني بالمملكة، رخيصاً وسهلاً. فالخطوط السعودية تخدم أكثر من عشرين مطاراً محلياً بأراضي المملكة، وتذيع رحلاتها الأدعية الإسلامية قبل الإقلاع خلال نظام الصوت العمومي بالطائرة. ولذلك عدلت مواعيد الرحلات وطرت إلى المدينة المنورة حيث أستأجرت سيارة في رحلة استغرقت أربع ساعات بالصحراء الخلابة، من أجل الوصول إلى "مدينة العلا" أو "واحة العلا"، التي يغطي النخيل مساحات شاسعة منها. ويعد سعر الوقود رخيصاً، حيث ملأت خزان الوقود لسيارتي الهيونداي بخمسة عشر ريالاً فقط.
وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الوقود أخيراً، فلا يزال رخيصاً.
وعندما حاولت حجز غرفة بالفندق وجدت أن طاقم العمل يصعب التعامل معهم عبر الهاتف، لذلك عندما وصلت إلى "فندق العلا أراك" كانت المفاجأة سارة بالنسبة إلي، فالغرف نظيفة، كما توجد باحات حول الفناء المزروع بالعشب، بالإضافة إلى ذلك المسجد الصغير بالمكان.
مدائن صالح
يحتاج القادمون إلى "مدائن صالح" إلى تصريح من أجل زيارة المدينة، وقد تكفل الفندق بتوفير ذلك لأجلي من خلال صورة ضوئية لجواز السفر الخاص بي بالإضافة إلى توفير مرشد لمساعدتي، وكان اسمه تامر (ويبلغ أجره اليومي 800 ريال ).
خلا الموقع تماماً من أي تواجد عندما وصلنا في اليوم التالي. حيث تسببت الأمواج الرملية الكبيرة في ظهور تلك التشكيلات الحجرية الرملية الضخمة. فقد عاش النبطيون منذ حوالي 2000 عام بالقرب من هذا المكان ونحتوا مقابر كبيرة وأنيقة بالصخور، وزينوا مداخلها بتماثيل الطيور وبصور الزهور والحيّات والوجوه.
وتقود تلك الأبواب إلى غرف كبيرة، بعضها يحتوي على ضرائح منفصلة، وبعضها الآخر يحتوي على أرفف طويلة محفورة داخل الصخور. وعلى الرغم من أن الواجهات شديدة الاستواء، فإن الجدران الداخيلة تحمل آثاراً للآلاف من ضربات الأزاميل. ومجرد التفكير في الأمر أشعرني بألم في معصمي.
قضيت الصباح أتجول بين الأضرحة في سعادة. ألتقط الصور وأتعجب من غرائب قدرات البشر وأتساءل كيف يمكن أن تبدو الحضارات الأخرى. أمّا المرشد الذي كان يصطحبني فلم يكن ذا أي نفع.
حيث قال لي "أنا لا أعرف التاريخ، ولكني أعرف أين توجد الأشياء".
بدت تلك المقابر فارغة، فيبدو أنها نُهبت منذ زمن بعيد، في حين تعكس الآثار المتبقية حول المكان بعض التفاصيل حول تلك الثقافة. بالمقارنة مع مواقع شبيهة في مصر، كنت أفضل حالاً بكثير لكوني وحيداً في المكان، حيث لا باعة جائلون أو بدو يعرضون عليك ركوب الجمال أو حتى حراسة لحماية المكان، إلا أن بعض الأماكن شملت آثار طلقات رصاص في بعض المواضع، بالإضافة إلى تغطية بعض الجدران برسوم الغرافيتي.
وذكرت بعض النقوش الموجودة فوق أحد المقابر عن مثل تلك الأمور، حيث حذرت من يقوم بالكتابة على المقبرة بأنه سيتوجب عليه دفع مبلغ لأحد الأشخاص، ومبلغ آخر للملك، في حين كتب بعض الزوار على الواجهة أسماءهم بالإضافة إلى كلمات تقول "ذكريات الأربعاء 3/11/2011". بعد بضع ساعات في المكان، كان التعب قد حل علينا بالفعل. المرشد قال لي حينها "بعد مرور بعض الوقت، تبدو كل تلك المقابر مثل بعضها تماماً".
وبعد ذلك، أثناء تفقد أحد المقابر، التقينا عن طريق الصدفة بسائح آخر، يبدو كبيراً في السن، ويرتدي حذاءً رياضياً بينما يحمل كاميرا للتصوير ويتحرك بحماس من مقبرة إلى أخرى.
قدم الرجل نفسه، حيث يدعى تاج الخازن، ويبلغ من العمر 76 عاماً وهو مهندس ميكانيكي متقاعد، كما أنه كندي الجنسية من أصل سوداني. باعتباره شخصاً يهوى الآثار، كان الرجل يحلم بأن يرى تلك المناطق من السعودية على مدار سنوات، إلا أنه لم يتمكن من القدوم سابقاً، إلى أن أدرك أن بإمكانه الحصول على تأشيرة بغرض أداء العمرة لكونه مسلماً، بينما يمكنه قضاء بعض الوقت في السياحة أيضاً، حيث قال مبتسماً "لقد قمت بأداء المناسك، والآن علي أن استكمل رحلة العلم والمعرفة".
وصف الرجل المكان بـ"الساحر"، إلا أنه أظهر شعوره بالإحباط من قلة اهتمام المسئولين في السعودية بتاريخ ما قبل الإسلام، حيث يقول "هذا جزء من تاريخ المملكة، فالتاريخ هنا لم يبدأ مع ظهور الإسلام مع كامل احترامي له بالتأكيد".
قمنا بزيارة بعض المقابر الأخرى إلى أن اكتفيت وقررت أن أرى ما الذي يمكنني أن أراه سريعاً من بين تلك المعارض الصغيرة قرب المدخل. لم يكن هناك الكثير، حيث كان مركز الزوار بالإضافة لمبنى الوسائط المتعددة ومتحف سكة الحجاز، وغيرهم مغلقين جميعاً، فيما عدا أنه وفق المواعيد المكتوبة على أبواب تلك الأماكن كان ينبغي أن تكون مفتوحة في ذلك الوقت، حيث أخبرنا أحد الحراس أنه من المفترض أن تكون متاحة في ذلك الوقت، لكن لم يأت أحدٌ للعمل اليوم.
ربما تواجه هيئة السياح السعودية كثيراً من المشكلات في إقناع السعوديين بزيارة مثل تلك الأماكن بدلاً من الذهاب إلى الإمارات أو البحرين، وهي دولٌ تمتاز بنمط اجتماعي أكثر تساهلاً والكثير من عوامل الجذب التي تفوق السعودية مثل دور العرض والحانات، في حين يهتم أصدقائي السعوديون على سبيل المثال بالرحلات الصحراوية، حيث يفضل الشباب الانطلاق بالسيارات بين الكثبان الرملية، لكنني قمت ببعض السياحة الداخلية في بداية رحلتي عندما اصطحبني بعض الأصدقاء السعوديين إلى "مهرجان الغضا" في محافظة عنيزة، وهو مهرجان سعودي محلي.
المهرجانات المحلية
تدعم هيئة السياحة كثيراً من المهرجانات المشابهة في جميع أنحاء المملكة، غير أنه من الصعب أن تصل للكثير من المعلومات بشأنها إذا لم تكن من متحدثي العربية. لذلك، فالطريقة الأفضل هي سؤال السكان المحليين حول ما يجري حالياً وطلب مساعدتهم في زيارة تلك الأماكن كما حدث معي.
كنا قد وصلنا إلى المهرجان في الثالثة عصراً، حيث وجدنا مئات الحاضرين، وهم مجموعة من الرجال بالجلباب السعودي التقليدي، وكذلك مجموعة من النساء يرتدين عباءات سوداء ولا يظهر سوى أعينهن، بالإضافة إلى مجموعة من الأطفال.
كان المهرجان عبارة عن مجموعة من المعارض التي تحتفي بتاريخ المنطقة، حيث كان هناك مجموعة من المنتجات المحلية المصنعة يدوياً مثل الملابس المطرزة والسجاد.
ويعتبر الشباب وصغار السن بشكل عام في السعودية من أكثر المهووسين بالشبكات الاجتماعية على مستوى العالم، حيث يسجلون أعلى معدلات الاستخدام لموقعي تويتر ويوتيوب. في إحدى المرات، توقفت لالتقاط صورة لبعض السيدات أثناء قيامهن بصناعة الخبز الممزوج بالعسل، قبل أن أنتبه أن هناك ثلاث فتيات سعوديات أخريات يقمن بتصويري بالفعل بهواتفهن. حاولت أن أوقف الأمر، إلا أنهن ضحكن وابتعدن، قبل أن يقمن بنشر صوري على الإنترنت. قررت بعد ذلك كردة فعل أن أقوم بتصوير كل من يحاول تصويري، واستطعت القيام بذلك مع البعض.
كانت هناك بعض الخيام التي بنيت لأداء الصلاة، وأماكن أخرى خصصت لتناول القهوة والشاي، بالإضافة لمنطقة للأطفال تحتوي على بعض الألعاب والأغاني (تحتوي على صوت فقط دون موسيقى)، كما رأينا أحد المهرجين المتجولين في المهرجان، والذي قام بتأليف أغنية خاصة لي مقابل مبلغ زهيد.
زرنا أيضاً معرضاً طبياً، حيث تناول بعضَ الأمراض المحلية التي تم القضاء عليها بالإضافة إلى بعض المعلومات عن الولادة. وفي مكان آخر، رأينا أسرة ترتدي الزي التقليدي وتقوم بتمثيل بعض المشاهد أمام منزل من الطوب اللبن، حيث تقوم سيدة بحمل إناء من اللبن في وعاء معدني، فيما تقوم مجموعة من الرجال بالغناء أثناء حفر أحد الآبار. بالقرب من ذلك، يمكنك سماع صوت مضخة مياه تعمل بالغاز، وهي من أولى الآلات التي تصل إلى تلك المنطقة.
في مشهد آخر، مدرّسٌ يقوم بتعليم مجموعة من التلاميذ من خلال ألواح خشبية، باعتباره جزءاً مما يحدث في مدارس تحفيظ القرآن بالمملكة، حيث تحرك الطلاب مع غروب الشمس وهم يغنون "حافظ حافظ" احتفالاً بالطالب الذي أتمَّ حفظ القرآن الكريم. بعد مرورهم، جاء أحد الأطفال بسرعة إليَّ قائلاً "كيف حالك؟".
هذا الموضوع مترجم بتصرف نقلا عن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.