المياه، هذا المصدر الحيوي الأساسي لكل أشكال الحياة على كوكب الأرض، قد تتحول إلى خطر محدق حينما تكون ملوثة. الكائنات الدقيقة مثل البكتيريا والطفيليات، التي تستوطن المياه الملوثة، يمكن أن تنقل أمراضًا تهدد صحة الإنسان بشكل جدي.
أمراض تنتقل عبر الماء، كما يُشار إليها غالبًا، ليست مجرد تهديد فردي بل هي مؤشر على مشكلات بيئية وصحية أوسع نطاقًا.
في ظل التحديات التي يفرضها الاحتباس الحراري، تزداد المخاطر المرتبطة بالأمراض المنقولة عبر الماء. الدراسات، مثل تلك التي يجريها برنامج أبحاث التغير العالمي في الولايات المتحدة، تحذر من أن ارتفاع درجات الحرارة قد يفاقم من تكاثر البكتيريا والطفيليات ويطيل من فترات ازدهار الطحالب السامة.
كما يُعتقد أن البنية التحتية المائية القديمة وغير الكافية قد تفشل في مواجهة هذه التحديات المتزايدة. بحسب تقارير حديثة، مثل تلك المنشورة على موقع Live Science وغيره من المصادر الموثوقة، تتضمن قائمة الأمراض المنقولة بالمياه الكوليرا، الإسهال الشديد، وحمى التيفوئيد. النداء يتعالى لاتخاذ تدابير استباقية لمعالجة المياه وتعزيز الأنظمة الصحية للوقاية من هذه الأمراض المهددة للحياة، والتي تعكس بدورها الحاجة الماسة لتدخلات بيئية وصحية شاملة.
أمراض تنتقل عبر الماء.. التهاب السحايا
التهاب السحايا الأميبي الأولي (PAM)، هذا المرض النادر والمميت، يظل واحداً من التحديات البيولوجية المُقلقة. ينجم هذا المرض عن الأميبا المعروفة باسم "نيجليريا فاوليري" (Naegleria fowleri)، التي تفضل المياه العذبة كالبحيرات، الأنهار والينابيع الساخنة.
تنشط هذه الأميبا بشكل خاص في درجات حرارة تتراوح بين 35 إلى 45 درجة مئوية، ولا تتسبب في العدوى إلا عبر دخولها الدماغ مباشرة عبر الأنف، عادةً عند الغوص أو القفز في الماء.
وفقًا للمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)، يتم تسجيل أقل من عشر حالات من PAM سنوياً في الولايات المتحدة، مما يبرز ندرة هذا المرض. عند الإصابة بـ PAM، تقتحم الأميبا الدماغ مسببة استجابة التهابية شديدة تؤدي إلى تورم الدماغ وتدميره، مما ينتهي غالبًا بوفاة أكثر من 97% من المصابين، بينما يعاني الناجون من تلف دائم في الدماغ.
الوقاية من هذا المرض الخطير تتلخص في تجنب دخول المياه العذبة إلى الأنف. يُنصح بعدم الغطس أو القفز في المياه الراكدة الدافئة واستخدام سدادات الأنف عند السباحة في الأنهار والبحيرات لتقليل خطر العدوى. الجهود المتواصلة لرفع الوعي وتعزيز السلوكيات الوقائية هي خطوات مهمة للحد من انتشار هذا المرض الفتاك.
حمى القندس والانتقال عبر المياه
حمى القندس، المعروفة أيضًا باسم "الجيارديا"، تمثل تحديًا صحيًا يتسبب في أعراض تستمر لأسابيع تشمل الغثيان، القيء، والإسهال الشديد. هذه العدوى تنجم عن الطفيلي وحيد الخلية المعروف باسم "الجيارديا الاثني عشرية". يعلق هذا الكائن الحي بجدار الأمعاء الداخلي، ويتكاثر من خلال تشكيل أكياس تُطرح مع البراز وقد تبقى حية في الماء أو التربة لعدة أشهر.
تنتقل العدوى عادةً عبر شرب مياه ملوثة بالأكياس، ولكن يمكن أيضًا أن تنتشر مباشرة من شخص لآخر أو عن طريق الطعام الملوث، كما ذُكر في مواد مايو كلينك. في الحالات التي لا يستطيع الجسم التخلص من الطفيليات بشكل طبيعي، قد يستلزم الأمر استخدام مضادات الطفيليات والمضادات الحيوية لمعالجة الإصابات المزمنة.
للوقاية من حمى القندس، يُنصح بتجنب شرب المياه غير المعالجة. الاهتمام بالنظافة الشخصية وتحسين طرق معالجة المياه والتأكد من سلامة المصادر المائية يمكن أن يقلل من خطر الإصابة بهذه العدوى المقلقة.
الكوليرا أخطر الأمراض المنقولة عبر المياه
مرض الكوليرا، وباء عالمي يعود تاريخه إلى قرون، يتسبب في أعراض حادة مثل الإسهال الشديد والقيء، مما قد يؤدي بسرعة إلى الجفاف الشديد والصدمة، وفي الحالات الأكثر خطورة، الوفاة. العامل المسبب لهذه الحالة هو بكتيريا ضمة الكوليرا التي تنتشر بشكل أساسي عبر مياه الشرب الملوثة.
تاريخياً، كانت الكوليرا مسؤولة عن وفيات مئات الآلاف، خاصة في العصور السابقة حيث كان نقص الصرف الصحي والفهم المحدود لطرق انتقال الأمراض يفاقمان الوضع. في القرن التاسع عشر، شهدت لندن تفشيات كوليرا متكررة، وكان الاعتقاد السائد أن "الملوثات" بما في ذلك الهواء الفاسد تنقل العدوى.
ومع ذلك، أحدث الطبيب جون سنو ثورة في فهم وباء الكوليرا عندما ربط بين تفشي المرض في سوهو عام 1854 ومصدر مياه ملوث في شارع برود، ما أسهم في تطوير علم الأوبئة الحديث.
على الرغم من التقدم الطبي الهائل، لا تزال الكوليرا تشكل تهديدًا صحيًا في العديد من أنحاء العالم. تُظهر الأرقام الصادرة عن منظمة الصحة العالمية أن هناك بين 1.3 مليون إلى 4 ملايين حالة كوليرا سنويًا، مع وفيات تتراوح بين 21 ألفاً إلى 143 ألف حالة.
يمكن علاج الكوليرا ببساطة عن طريق محلول الإماهة الفموي، لكن المأساة تكمن في عدم توفر العلاج للفئات الأكثر ضعفًا. التركيز على تحسين الصرف الصحي وضمان الوصول إلى المياه النظيفة هو المفتاح للقضاء على وفيات الكوليرا في المستقبل.
أميبا الشوكمبية
الأميبا الشوكمبية، التي تتواجد في كافة أنواع المياه بما في ذلك العذبة والمالحة، غالبًا ما تكون مسؤولة عن التهابات خطيرة في العين تعرف باسم التهاب القرنية الأكانثاميبي. بينما يمكن علاج هذا النوع من الالتهابات، فإن الأميبا قد تسبب أيضًا عدوى تمتد إلى الجلد وأنسجة أخرى.
في حالات نادرة وخطيرة، إذا انتشرت العدوى إلى الدماغ أو النخاع الشوكي، تُعرف هذه الحالة بالتهاب الدماغ الحبيبي الأميبي (GAE)، والذي يمكن أن يكون مميتًا في العديد من الحالات.
لسوء الحظ، لا توجد إرشادات محددة تضمن الوقاية من GAE بشكل كامل، ولكن هناك توصيات لتقليل المخاطر، خاصةً للأشخاص ذوي المناعة المنخفضة. من الأمور التي يُشدد عليها الأطباء، تجنب شطف الأنف باستخدام ماء غير معقم أو مقطر خاصةً لعلاج حالات مثل التهاب الجيوب الأنفية. ينبغي استخدام الماء المعقم أو المقطر فقط لهذه الغايات لمنع انتقال الأميبا إلى الدماغ.
تشير الدراسات إلى أن معظم الحالات التي تطورت إلى GAE كان المرضى فيها يعانون من ضعف في النظام المناعي، مما يعزز الحاجة إلى مزيد من الوعي والحذر في التعامل مع المياه والحفاظ على نظافة الأنف والعين لتجنب هذه العدوى الخطيرة.
حمى التيفوئيد
حمى التيفوئيد، التي تنقلها بكتيريا السالمونيلا المعوية التيفية، تظل واحدة من الأمراض المائية الأكثر خطورة على مستوى العالم. تتسبب هذه البكتيريا في أعراض مثل الحمى، آلام البطن، ومشاكل الجهاز الهضمي التي تشمل الإسهال والإمساك. مع أن المضادات الحيوية تُستخدم لعلاج حمى التيفوئيد، فإن ظهور سلالات مقاومة لهذه الأدوية يعقد عملية العلاج ويزيد من تكلفتها.
بحسب منظمة الصحة العالمية، حمى التيفوئيد مسؤولة عن وفاة ما يقدر بنحو 110 آلاف شخص سنوياً. كما أن نسبة تتراوح بين 1% إلى 4% من المصابين لا تظهر عليهم أعراض ولكنهم يستمرون في نقل البكتيريا عبر البراز والبول، مما يسهم في انتشار المرض بشكل صامت ومستمر.
تتوفر لقاحات ضد حمى التيفوئيد، ويُنصح بها لسكان المناطق التي تشهد انتشاراً للمرض و للمسافرين المتوجهين إلى هذه المناطق. كما تُعد الممارسات الصحية مثل شرب المياه المعبأة أو المعالجة، وتجنب الحليب الخام من التوصيات الهامة للوقاية من هذا المرض. حتى في الدول المتقدمة، يُنصح بتجنب الحليب غير المبستر لأنه قد يحتوي على بكتيريا السالمونيلا التيفية وغيرها من البكتيريا الضارة التي تشكل خطراً صحياً.
مرض دودة غينيا
عدوى دودة "دراكونكولوس ميدينينسيس"، المعروفة بمرض دودة غينيا، تُعتبر من الأمراض الطفيلية المروعة التي تؤثر بشكل رئيسي على بعض الدول الأفريقية مثل أنغولا، تشاد، إثيوبيا، مالي، والسودان. تنتقل هذه الدودة عبر المياه الراكدة كالبرك، حيث تطلق يرقاتها التي تُبتلع بدورها من قبل قشريات دقيقة.
عندما يستهلك الإنسان المياه الملوثة بهذه القشريات، تنمو الدودة داخل جسده وتخرج بعد حوالي عام عبر بثرة مؤلمة في الجلد، قد يصل طول الدودة إلى متر واحد، العملية التي تخرج بها الدودة تسبب جرحًا عميقًا قابل للعدوى، مما يستلزم عناية طبية لتجنب مضاعفات خطيرة. الإجراءات الوقائية تشمل تجنب شرب المياه غير المعالجة خصوصًا في المناطق الموبوءة بمرض دودة غينيا.
الأخبار الإيجابية تكمن في أن مرض دودة غينيا يقترب من الاستئصال التام، وذلك بفضل جهود دولية مستمرة على مدى أكثر من 40 عامًا، تركزت على تحسين معايير الصرف الصحي والمياه. منظمة الصحة العالمية تُبين أن عدد الحالات قد انخفض من 3.5 مليون في منتصف الثمانينات إلى 14 حالة فقط في عام 2023، وفقًا لمركز كارتر، ما يشير إلى قرب نهاية هذه الآفة الصحية العالمية.
التهاب اللفافة الناخر
التهاب اللفافة الناخر، المعروف بـ "مرض آكل اللحوم"، يمثل تهديدًا خطيرًا للصحة عندما تتسبب بكتيريا معينة في عدوى تستهدف الأنسجة الرخوة وتهاجمها بسرعة. يمكن أن ينشأ هذا المرض من تعرض الجروح، حتى تلك الصغيرة، للماء سواء في بحيرة أو المحيط، مما يشكل بيئة مثالية لتكاثر البكتيريا المسببة للعدوى.
في مياه البحيرات العذبة، تُعد بكتيريا الجنس "أيروموناس" (Aeromonas) واحدة من المسببات الشائعة لالتهابات آكلة للحوم. أما في مياه المحيط، فيكثر وجود بكتيريا "فيبريو فالنيفيكاس" (Vibrio vulnificus)، والتي يمكن أن تسبب عدوى خطيرة إذا تمكنت من دخول الجسم عبر جرح مفتوح. هذه البكتيريا تستغل الجروح الصغيرة لتشكل تهديدًا حقيقيًا، خصوصًا للأشخاص الذين يعانون من ضعف في الجهاز المناعي.
كلية الطب بجامعة إنديانا الأمريكية تشير إلى أن الأشخاص المصابين بأمراض مثل السكري، والذين يعانون من ضعف في المناعة، هم أكثر عرضة للإصابة بالتهاب اللفافة الناخر. لذا، ينصح الأطباء بشدة بتجنب السباحة أو الغطس في المسطحات المائية عند وجود جروح مفتوحة، للوقاية من هذا المرض الفتاك وتقليل مخاطر العدوى.