هل تصدق أن أحد أهم مكونات العلاج الكيميائي للسرطان، والمستخدم في عصرنا الحالي لمداواة المصابين بأنواع محددة من الأمراض السرطانية، كان في بداية الأمر سلاحاً فتّاكاً لقتل الأعداء؟
غاز الخردل تسبب في أعراضٍ حادة وغير مفهومة للجنود
في 2 ديسمبر/كانون الأول 1943، هاجمت القوات الألمانية ميناء باري الإيطالي.
وأسفر الهجوم عما لا يقل عن 1000 شخص وأغرق 17 سفينة. إحداها كانت تحمل 2000 قنبلة محملة بغاز الخردل القاتل.
الغاز- الذي كان في الواقع في هيئة سائل في القنابل- اختلط بالزيت من صهاريج السفن بعد الغرق، مكوناً بقعة زيتية لزجة تشبث بجلود الجنود الذين سبحوا وصولاً للشاطئ.
وفي العيادات الميدانية، عانى الجنود بعد ساعات من الاستقبال، من ألم وأعراض حادة وغير مفهومة. ووجدت الممرضات المذهولات أنفسهن أمام مئات المرضى الذين تداعت صحتهم بسرعة فائقة لدرجة إصابة بعضهم بالعمى المفاجئ.
وهُنا برز دور الطبيب الأمريكي ستيوارت ألكساندر، الخبير في الأسلحة الكيميائية، الذي أجرى أبحاثاً على الناجين لشرح الأمراض الغامضة والأعراض الحادة التي أودت بحياة الكثير منهم، بحسب موقع Cancer Research البريطاني للأبحاث.
أعراض الغاز السام على المصابين كانت بداية الخيط
بحسب موقع الكلية الطبية بجامعة Yale الأمريكية، تم تطوير العلاج الكيميائي لأول مرة في بداية القرن العشرين، على الرغم من أنه لم يكن الغرض منه في الأصل أن يكون علاجاً للمرضى بأي حالٍ من الأحوال.
فخلال الحرب العالمية الثانية، تم اكتشاف أن الأشخاص الذين تعرضوا لسلاح خردل النيتروجين الكيميائي- والمحرَّم دولياً اليوم- قد عانوا من انخفاضٍ كبير في عدد خلايا الدم البيضاء بأجسادهم بفضل أبحاث الخبير الأمريكي ألكساندر.
ووفقاً لمجلة Nature العلمية، دفعت هذه النتيجة الباحثين إلى التحقيق فيما إذا كان من الممكن استخدام عوامل الخردل لوقف نمو الخلايا سريعة الانقسام مثل الخلايا السرطانية في الجسم المصاب.
وفي الأربعينيات من القرن الماضي، قام اثنان من علماء الصيدلة البارزين في جامعة ييل، وهما ألفريد جيلمان ولويس جودمان، بفحص التأثيرات العلاجية لعوامل الخردل في علاج سرطان الغدد الليمفاوية، حسب موقع New Medical Science للأبحاث العلمية.
استخدام غاز الخردل لتطوير العلاج الكيميائي للسرطان
في الخطوة الأولى لتطوير هذا السلاح الفتّاك واستخدامه في المجال الطبي، قام الباحثان جيلمان وجودمان بنقل مرض الأورام اللمفاوية في الفئران المختبرية، وأظهروا أن الأورام يمكن علاجها بعوامل الخردل المستخدم في الحرب.
بعد ذلك، وبالتعاون مع جراح صدري يُدعى جوستاف لينسكوج، قاموا بحقن نوع أقل تطايراً من غاز الخردل يُسمى موستين، وهو خردل النيتروجين، في مريض مصاب بورم الغدد اللمفاوية اللاهودجكينية.
وبحسب موقع CNBC الأمريكي، وجد العلماء بالفعل أن كتل الورم لدى المريض قد انخفضت بشكل ملحوظ بعد بضعة أسابيع من العلاج، وعلى الرغم من أن المريض اضطر إلى العودة لتلقي المزيد من العلاج الكيميائي للسرطان لكي يقارب الشفاء، فإن هذه التجربة العملية مثَّلت بداية استخدام العوامل السامة الكيميائية على خلايا الجسم لعلاج بعض النوعيات المحددة من المرض الخبيث.
وقد أجريت هذه الدراسة الأولية عام 1943 ونُشرت نتائجها عام 1946 محققة الكثير من الجدل في الأوساط الطبية وعلوم الصيدلة وعلاج الأمراض، بحسب Yale.
ووجدت الدراسة بهذه النتائج الواعدة، نطاقاً جديداً لفهم سبب حدوث حالات موهنة لمرضى السرطان، وآثار جانبية حادة على الصحة العامة لجسم المريض بعد تلقّي العلاج الكيميائي للسرطان.
لاحقاً، اكتسب استخدام خردل النيتروجين للأورام الليمفاوية شعبية في الولايات المتحدة بعد نشر مقال موجز بالنتائج العلمية في عام 1946.
المزيد من الإلهام بسبب الخردل لتطوير العلاج الكيميائي للسرطان
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تم التحقيق في نهج علاجي كيميائي آخر لتطوير العلاج الكيميائي للسرطان.
إذ درس أخصائي علم الأمراض من كلية الطب بجامعة هارفارد سيدني فاربر، التأثيرات المضادة للسرطان لحمض الفوليك- وهو فيتامين أساسي في عملية التمثيل الغذائي للحمض النووي.
وطور فابر وزملاؤه نظائر حمض الفوليك (مثل الميثوتريكسات) التي وجدوا أنها معادية لحمض الفوليك، وتمنع عمل الإنزيمات التي تتطلب حمض الفوليك. وفي عام 1948، تم التوصُّل إلى أن هذه العوامل هي أول ما يؤدي إلى إعياء الأطفال المصابين بسرطان الدم الليمفاوي الحاد، مما يدل على أن مضادات الفولات لديها القدرة على استعادة نخاع العظام الطبيعي.
كذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، أعلنت شركة Eli Lilly للعقاقير، وواحدة من رواد الشركات اليوم في إطلاق الأدوية النفسية مثل عقار "بروزاك" لعلاج الاكتئاب، أن قلويدات النبات مثل تلك المستخرجة من الفينكا الوردية كانت مفيدة لمرضى اللوكيميا، مطلقة بذلك نوعاً جديداً من العلاج الكيميائي للسرطان.
وقد أدى ذلك إلى إدخال قلويدات الفينكا كعوامل مضادة ومعالجة للسرطان في الستينيات.
ومن الأمثلة على ذلك الفينبلاستين المستخدم في علاج مرض هودجكين والفينكريستين المستخدم في علاج سرطان الدم لدى الأطفال، بحسب New Medical Science.
وعلى مدى العقدين التاليين، بدأت أنظمة العلاج الكيميائي المركبة تكتسب شعبية.
وقد أدى الاستخدام المتزامن للأدوية ذات آليات العمل المختلفة إلى مزيد من التحسينات في بقاء المريض بالسرطانات الخبيثة على قيد الحياة، وإلى انخفاض معدلات الوفيات، التي تنخفض تدريجياً كل عام منذ 1990.
يرجع هذا الانخفاض في معدلات الوفيات إلى كل من الاكتشاف المبكر واستخدامات العلاج الكيميائي للسرطان التي تم استلهامها من غاز الخردل الذي استُخدم في الحرب.