بماذا تشعر في اليوم الذي تأكل فيه طعاماً صحياً وتمارس الرياضة؟ ألا تشعر بأن حالتك النفسية صارت أفضل وأنك أكثر هدوءاً أو ربما سعادة؟ هذا لأن اتباع نظام غذائي أفضل يحسن صحتك النفسية.
إذاً فإن تناول كميات وفيرة من الفاكهة والخضراوات، وكذلك الحبوب الكاملة والمكسرات، واستهلاك كمياتٍ أقل من اللحوم والألبان والأغذية المصنَّعة، مع بعض الأطعمة الغنية بالألياف العالية والأطعمة المخمرة والأسماك عدة مرات أسبوعياً، لن يحسن صحتك الجسدية فحسب، بل أيضاً سيحسن صحتك النفسية.
"تحسين نوعية الغذاء قد لا يحسِّن الحالة المزاجية فحسب، بل يعالج كذلك الأمراض النفسية الشائعة والحادة"، هذه التوصيات وردت في أبحاث علم النفس التغذوي، وهو مجال يرتكز على أدلة متزايدة من دراساتٍ سكانية وتجارب سريرية أُجريت في العقد الماضي، فيما أشارت لها مجلة Nature العلمية الأمريكية.
اتباع نظام غذائي أفضل يحسِّن صحتك النفسية.. كيف ذلك؟
ترتبط الأنظمة الغذائية التقليدية التي يتبعها الأشخاص في أماكن مثل البحر الأبيض المتوسط والنرويج واليابان بانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب، وهو أحد أكثر الاضطرابات المزاجية شيوعاً، وترتبط كذلك، بدرجة أقل، بانخفاض خطر الإصابة بالقلق. يمكن أن يخفف إجراء تغيير في النظام الغذائي من أعراض الاكتئاب، حتى بين الأشخاص الذين يعانون من أنواع حادة من هذا المرض.
كذلك كان الباحثون يدرسون الأعداد الهائلة من الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش في أمعاء الإنسان وكيفية اتصالها مع عقله للتأثير على العمليات التي تحدث فيه. ارتبطت اختلالات التوازن في النبيت الجرثومي المعوي (وهي مجموعة الميكروبات الموجودة في الجهاز الهضمي) بمجموعة من الاضطرابات العصبية، مثل مرض ألزهايمر، واضطراب طيف التوحد، والتصلب المتعدد (التهاب الدماغ والنخاع المنتثر الحاد، وهو مرض مناعي)، ومرض باركنسون (الشلل الارتعاشي، وهو مرض عصبي)، وداء هنتنغتون (مرض وراثي نادر يتسبب في الانهيار التدريجي للخلايا العصبية في الدماغ).
يبدو أن وظائف المخ، والحالة المزاجية، والصحة النفسية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما يأكله الأشخاص من خلال المحور الدماغي المعوي الذي تؤثر عليه الميكروبات الموجودة في الجهاز الهضمي.
تقول إيمي لافمان، الباحثة في مجال النبيت الجرثومي المعوي بمركز Food and Mood Centre بجامعة دكين في مدينة غيلونج الأسترالية، إن وجود علاقة بين الطعام الذي يأكله الناس والمخ هو "أمر تخبرنا به الحكم القديمة منذ وقت طويل، لكن من المثير حقاً أن يبدأ العلم في إثبات كيفية وسبب ذلك".
تأثير الميكروبات الموجودة في الجهاز الهضمي على الصحة النفسية
تبيَّن لنا أن النبيت الجرثومي المعوي (مجموعة الميكروبات الموجودة في الجهاز الهضمي) شديد التعقيد والحساسية؛ إذ يمكن للتغييرات في النظام الغذائي تغيير تركيبته خلال أيام. لكن وفقاً لتحليلٍ تلويّ، هناك خلط بين البيانات المستمدة من التجارب البشرية على تغييرات الأنظمة الغذائية التي تهدف إلى تحويل النبيت الجرثومي المعوي من أجل تعزيز الصحة النفسية.
إذ أسفرت بعض الدراسات التي أجريت على المعززات الحيوية (أو البروبيوتيك، وهي الكائنات الحية الدقيقة التي تمنح فوائد صحية للكائن الحي عند إدخالها بكميات كافية) عن نتائج مقنعة، مثل انخفاض أعراض الاكتئاب لدى النساء اللواتي أنجبن حديثاً.
لكن لم تُظهر دراسات أخرى تأثيراً أكثر من تأثير العلاج الوهمي. المقارنات صعبة نظراً لاختلاف الجرعات وسلالات البكتيريا المستخدمة في التجارب. على نحو مماثل، وعلى الرغم من أنها واعدة، لا تكفي الأدلة المستخلصة من التجارب البشرية التي تختبر أطعمة معينة تحتوي على البريبيوتيك (الأطعمة الغنية بالألياف الغذائية الغنية بالنشويات التي تحفز المستعمرات البكتيرية المفيدة في الأمعاء) لاستخلاص استنتاجات واضحة.
هل تقوم أغذية بعينها بهذه المهمة؟
يركز الباحثون في Food and Mood Centre على النظام الغذائي بأكمله وليس على مكونات منفردة أو سلالات معينة من البكتيريا تشتمل عليها مكملات البروبيوتيك. وتقول إيمي: "لا توجد أغذية فائقة تضمن صحة نفسية إيجابية، الأمر أبسط وأكثر تعقيداً من ذلك في الوقت نفسه".
تقول الباحثة إنه لدعم الصحة النفسية وصحة الدماغ، يُنصح بتناول الأطعمة الغنية بالألياف مثل الفاكهة والخضراوات والحبوب الكاملة. في هذه الأطعمة، تعزز الألياف والنشويات المقاوِمة للهضم في الأمعاء الدقيقة نمو البكتيريا المفيدة التي تحمي من الالتهابات من خلال حماية جدار الأمعاء، كذلك تنتج البكتيريا الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة التي يُعتقد أن لها دوراً رئيسياً في التواصل بين الأمعاء والمخ.
كذلك أظهرت تقارير وجود فوائد للصحة النفسية في المركبات الكيميائية مثل البوليفينولات التي تحتوي عليها الأطعمة النباتية وأحماض أوميغا 3 الدهنية التي يمكن الحصول عليها من الأسماك.
فيما يتعلق بمسألة مزيج الميكروبات الذي يؤدي إلى نبيت جرثومي صحي، يُعتقد أن التنوّع مهم. يبدو أن الأشخاص الذين لديهم تنوع أكبر من البكتيريا في أمعائهم يتمتعون بصحة أفضل. ويبدو أن النظام الغذائي الغربي الذي يحتوي على أطعمة مصنّعة تحتوي على الكثير من الدهون والسكر، وقليل من الألياف الغذائية والمغذيات الدقيقة، ضار بالصحة النفسية والجسدية، إذ يؤدي إلى الحد من تنوع النبيت الجرثومي المعوي، وزيادة الالتهاب وخطر الإصابة بالاكتئاب.
تستعين الدراسة الحشدية طويلة المدى SUN (Seguimiento University of Navarra) بخريجي الجامعات في إسبانيا منذ عام 2000 لتحليل الارتباطات بين الأنماط الغذائية والصحة، لا سيّما الاكتئاب. إحدى النتائج التي توصلت إليها الدراسة هي أنه كلما تناولت المزيد من الأطعمة فائقة المعالجة (أطعمة مصنَّعة غنية بالطاقة تغيرت بشكل كبير عن حالتها الأصلية)، زاد خطر إصابتك بالاكتئاب.
باستمرار، أظهرت دراسات رصدية من هذا النوع القائم على الملاحظة خلال العقد الماضي أن الأنظمة الغذائية الجيدة الشاملة التي تتسم بانخفاض مستوى الأغذية فائقة المعالجة تمنح بعض الحماية ضد الاكتئاب. لكن تقول باحثة الصحة العامة بجامعة لاس بالماس دي غران كناريا الإسبانية، ألمودينا سانشيز فيليجاس، إن هناك حاجة لإجراء مزيد من التجارب المنضبطة المعاشة التي تختبر إجراء تغييرات محددة في الأنظمة الغذائية. لكن من شأن ذلك أن يسمح للباحثين بتحسين الإرشادات الغذائية للوقاية من الاكتئاب.
ونظراً إلى أن الاستجابات الفردية للطعام يبدو أنها تتأثر بالنبيت الجرثومي المعوي للشخص الشخص، سيحتاج الباحثون إلى إجراء تجارب أوسع نطاقاً لمعرفة الأفراد الذين يرجح أن يستفيدوا من تغييرات الأنظمة الغذائية قبل وصفها في العيادات الطبية. حتى ذلك الوقت، فإن الرسالة الصحية العامة البسيطة هي أنه يمكن للجميع الاستفادة من نظام غذائي متوازن يحتوي على الكثير من الفاكهة والخضراوات والألياف، وقليل من الأطعمة المصنعة.