جلد الذات.. ما الأسباب التي تجعلنا نقلل من شأن أنفسنا ولا نتوقف عن لومها؟

عدد القراءات
3,840
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/23 الساعة 14:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/05 الساعة 11:39 بتوقيت غرينتش
ما الأسباب التي تجعلنا نقلل من شأن أنفسنا ولا نتوقف عن لومها؟

في وقت ليس ببعيد عاشت شابة جميلة أيامها كما يعيش الجميع، يوم يتبعه يوم آخر كما لو كانت الأيام مطلية بلون واحد فقط، تمضي الأيام وهي غارقة في العمل أحياناً، وأحيان أخرى عاجزة عن فعل أي شيء نتيجة للألم والحزن والإحباط، الأيام تتوالى على اختلافها يجمعها شيء مشترك يظهر في خلفية المشهد كموسيقى عازف بيانو حزين، يبث آلامه عبر نغمات موسيقية حالمة، وإلى جانب هذا العزف سمعت صوتاً يهمس حيناً ويزمجرغضباً حيناً آخر، يشدو ساعة كعصفور مع موسيقاه، ويضرب بالسيف في معظم الأحيان، صوت أليم يلاحقها صباحاً ومساءً حتى وإن خفتت الأصوات وأظلمت السماء ظل صاحبه متيقظاً كأنه لا يعرف النوم، لا يعجزه زحام العالم أو يملّ من وحدته معها، لا يكترث بانشغالها في شيء ما أو يعبأ بأحوالها، حاضر دائماً كموسيقى خلفية تُدار بالتوازي مع مشاهد الحياة المكررة، كل يوم تسأل نفسها من أين يأتي هذا الصوت وكيف عرف طريقه إليّ؟ صوت يعبر صداه السكون كقرع الطبول، ظنت أنها أصيبت بالجنون فهي تسمع أصواتاً لا يسمعها أحد حتى وإن حاولت أن تشرح لمن يكترثون لأمرها، كانت تجد منهم صداً وعزوفاً كأنها تحكي عن شيء خيالي، فقررت أن تختار الصمت، أن تستسلم له، أو أن تدعي الاستسلام لعلها بذلك تمثل له خضوعاً مزيفاً يُسهل عليها اكتشافه، ظلت أياماً طويلة تسمعه، حتى اتخذته رفيقاً مقرباً أنساها أنها حين بدأت كانت تريد أن تعرف ماهيته، غرقت في أكاذيبه، لم تكتشف أن قسوته مبالغ فيها، وأن رحمته هي أقرب ما يكون من غيرها أبعد ما يكون عنها، ذلك الجلاد الذي سيطر على أيامها دون أي إرادة منها، يسلب منها القوة والإرادة شيئاً فشيئاً، تفقد الشباب والرونق فتصبح بعمر الستين، وتعجز عن حب الحياة، عن حب نفسها قبل كل شيء آخر، إنه صوتك الذي سيمنعك دائماً مستخدماً أشد الأسلحة إذا حاولت أن تثبت لنفسك أنها تستحق الحب.

صوتك الداخلي: جلاد أم صديق؟

جلد الذات وفقاً للمصطلح العلمي هو مرض نفسي يتسم بمبالغة الشخص في القسوة على نفسه ولومها على سلوكيات سليمة، لكنه يبالغ في تضخيم أخطائه في نظر صاحبها نتيجة للإفراط في التقليل من النفس والشعور بالدونية بسبب تعرّض الإنسان لمواقف حياتية مختلفة وعلاقات مؤذية أدت إلى صورة ذاتية مشوّهة، فيصبح لدى الشخص دوافع تجعله يفرط في إيذاء نفسه وتعذيبها في محاولة فاشلة منه لتصحيح سلوكها وتقويمه دون حاجة فعلية لذلك إلا أن هناك اعتقاداً شائعاً بين كثير من الناس أن الإنسان يجب أن يستخدم الشدة إذا ما تعامل مع نفسه، ذلك نتيجة لتصور خاطئ أن نجاح الإنسان في حياته وتحقيقه لأهدافه يتناسب مع تطبيقه للحزم مع ذاته، وهذا مثال واضح لاختلاط مفهوم الالتزام والانضباط مع مفهوم جلد الذات، هل يحتاج الإنسان أن يكون رقيباً على نفسه إلى حد القسوة كما لو أنها ستبالغ في الوقوع في الخطأ أو أنها مجبولة على الفساد؟

أرى أن البعض يبالغون في الرفق إذا ما كانوا في موضع من يقدم النصيحة والعون لأحدهم، يسمع ويتفهم، يرحم إذا لزم الأمر ويلتمس الأعذار، ولكن كيف إذا كانت الضحية هي نفسك؟ تلك التي تتألم لحادثة ما أو تتعافى من موقف سيئ ألمّ بها، كيف يسيطر الشك على نفس الإنسان حتى يشك في ذاته التي هي نفسه شكاً قاسياً يدفعه للوقوف معها بالمرصاد، هل تهون الحياة وتحلو في ظروف تعظم المعصية وتعمى عما في الإنسان من خير؟

المبالغة في إيذاء النفس جريمة في حق الذات

يظن البعض أن إيذاء النفس قد يخفف من حدة شعوره بالذنب، ولكن هل يعرف الإنسان حقاً متى يجب عليه أن يشعر بالذنب من شيء ما أم يختلط عليه الأمر فيصبح أبسط الأشياء ذنباً بشعاً لا يغتفر؟ يغفر الله لعباده إذا أذنبوا، تُفتح أبوابه دائماً بالرحمة والسعة والمغفرة بينما يقف الإنسان عاجزاً مع نفسه لا يقدر على أن يستوعب ضعفها الإنساني الطبيعي، فالبشر يخطئون بشكل طبيعي لأنهم لم يخلقوا ليتصفوا بالكمال ولكن حينما يتوقع أحدهم الكمال من نفسه يصبح كل شيء وأي شيء جريمة تستحق العقاب وكأنه يغسل نفسه من الذنب أو يكفر عن أخطائه في صورة يصبح فيها الجاني والمجني عليه شخصين في جسد واحد. 

تعظيم الخطأ وتضخيمه قد لا يقتصر على الإيذاء المعنوي الذي يهدم الصحة النفسية للإنسان ولكن في بعض الظروف قد يقدم الشخص على أن يتسبب في إيذاء نفسه مادياً بأساليب مختلفة إرضاءً للصوت الذي بداخله الذي يخبره أنه يستحق ما يقع عليه من سوء دائماً وفي كل الظروف ويمنعه من دخول أي باب يسمح له بالرفق مع نفسه. 

من أين جاء هذا الصوت؟

يشترك معظم الناس الذين يعانون من هذا المرض النفسي في أنهم تعرّضوا للإيذاء من قبل شخص آخر، كأن يكونوا ضحية للوالدين، فالكثير منا يتعرف على المفهوم الأول للعقاب في فترة الطفولة وتتبعها فترة المراهقة، حيث يكون العقاب نتيجة يحصل عليها الطفل من الوالدين أو المدرسة أو المجتمع إذا قام بشيء مخالف لما هو متعارف عليه في الأخلاقيات العامة، وهو بهدف الارتقاء بسلوك الطفل وإنشاء روابط ذهنية بين السلوك السيئ والحصول على العقاب، وقد يكون هذا الأسلوب جيداً في مواضع معينة إلا أنه يتسبب في ألم وأذى نفسي يتراكم في نفسية الطفل حتى يظل معه بقية حياته، عندما ينتظر الأبوان الكمال من طفلهما، أو يبالغان في القسوة والشدة بدافع التربية على الالتزام وتقويم السلوك ينتج عن هذه الصور إفراط في استخدام العقاب فيصبح نتيجة لأي تصرف حتى وإن كان تصرفاً بسيطاً لا يستحق المبالغة في رد الفعل، حتى تنعكس المشكلات النفسية التي يعاني منها الأب والأم بسوء تصرفهما على نفسية الطفل لينشأ ضعيفاً هشّاً يسعى بكل ما يملك من قوة لكي يكون طفلاً جيداً في نظرة الأبوين غير السوية، لأنه لا يحصل على الحب والاهتمام إلا إذا فعل سلوكاً جيداً بينما يلقى عقاباً قاسياً شديداً إذا خالفت تصرفاته ما ينتظره الوالدان والمجتمع.

ماذا تسمع من نفسك؟

إنه صوت تسمعه الآن بينما تقرأ هذه الكلمات، هل يخبرك أنك تستحق العطف والحب دائماً وأبداً وكل يوم؟ أم يبحث عنهم في الآخرين، ينتظر أن يرى انعكاس صورته في عين أحدهم ليدرك أنها تلمع وتستحق، أو أن يقع فريسة لمرآة مشوّهة تعكس ذاته بحقد وقسوة فتدمر ما تبقى من تقديره لنفسه، هل الانعكاسات دائماً ما تقدم نفعاً أم أن الإنسان يحتاج لأن يكون له مرآة خاصة لا يتحكم أحد في انعكاسها أو يسيطر عليها، أن تكون حيادية مخلصة لصاحبها في المقام الأول قبل أن تكترث لآراء الجميع، قد يتأثر صوتك فيسمع أصواتاً قاسية تخبره من يكون، أصواتاً لا يهمها ما تعيشه أنت كل يوم نتيجة للظلام الذي يفرضه هذا الصوت على روحك وعالمك دون أي رحمة، إنه يجب أن يكون انعكاساً لك أنت وحدك دون أي شروط، أن تصدق نفسك وتحبها في جميع الاحتمالات.

لماذا يجب أن تحب نفسك؟

قال أحدهم إن ما تراه من نفسك تنعكس صورته أمام الآخرين، أتمسك دائماً بهذا الاعتقاد رغم صعوبة تفسير السبب الذي يؤدي إلى حدوثه، إلا أنه عندما تقدم حباً خالصاً لنفسك -وهي الأجدر بالحب- فإنه ينعكس عليك وعلى حياتك بأكملها، قد تظن أن محبتك لنفسك قد تفسدها إلا أن تشجيعك لنفسك ومحاولتك الدائمة لدفعها نحو ما تحبّ هي السبب الأول والأهم لتحيا حياة طيبة، كيف تنتظر من الآخرين حباً وتعاطفاً وتشجيعاً تظن أنك لا تستحقه؟ وكيف تقدمهم للآخرين بقلب صادق وأنت تبخل على نفسك بالكلمة الطيبة؟ حتى إن كنت أسوأ شخص على هذه الأرض وهو افتراض غير قابل للحدوث إلا أن الإنسان يستحق أن يحب نفسه على كل حال من الأحوال، أن تظل قيمته ثابتة راكزة مهما حدث ومهما انتهت به الطرق إلى الفشل، يظل إنساناً مكرماً له قيمة، لا تستسلم لصوتك ولا تركز على عيوبك فالجميع لديهم عيوب وكل يشغله تقويم عيبه لا أن يلتفت إلى نواقصك، أجبرْ صوتك على أن يتحدث بلغة واعية جديدة يوماً بعد يوم، ستستيقظ في يوم ما لتفاجأ بأن ذلك الصوت اختفى وجاء محله صوت رفيق يحبك وتحبه في خلفيته لحن موسيقاك الداخلية التي ستصبح عزفاً يُقدم على الحياة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نادين عبدالحميد
طالبة ومدونة مصرية
طالبة ومدونة مصرية
تحميل المزيد