لا يحمَلون، ولا تتغير أجسادُهم، وينامون الليل.. ولكن اكتئاب ما بعد الولادة للآباء وارد الحصول تماماً كالأمهات. أجلْ، إنه اضطراب نفسي يصيب الرجال، وبشكل شبه مؤكد.
أو على الأقل هذا ما أكدته مقالةٌ بحثية نشرتها مجلة Family Issues العلمية، المتخصصة بشؤون الأسرة.
لهذا الهدف، حلَّل باحثون ما يُنشر على المنتديات والمواقع الإلكترونية، واكتشفوا أنَّ الآباء الجدد يشاركون قصصاً حول حالةٍ غالباً ما تَظهر لدى الأمهات الجديدات.
وتوصَّلوا إلى أنه ينبغي على الآباء والأمهات الجدد أن يدركوا وجودَ هذه الاحتمالية، كما ينبغي أن يأخذها الأطباء بعين الاعتبار.
استقت الدراسة معلوماتها من المدونات ومواقع الإنترنت والمنتديات وغرف الدردشة التي يتشارك فيها الآباء الجدد قصصهم.
وقال الآباء في تلك المنشورات إنّهم لم يكونوا يعرفون أنَّ الرجال يمكن أن يصابوا باكتئاب ما بعد الولادة، وأنَّ النساء اللاتي شاهدن تلك العلامات كنَّ غير متأكداتٍ من الاسم الذي ينبغي أن يطلق عليها.
كل المعلومات موجَّهة للأم التي ينصبُّ اهتمامها على المولود
كان الآباء الجدد مصابين بالإحباط من شُح المعلومات، ومن أنَّ المعلومات التي وجدوها كانت تركز بشكل أساسي على الأمهات.
وقال الآباء الجدد إنهم يشعرون بالإرهاق والذهول، وبأنهم محبوسون، تماماً كما تقول العديد من الأمهات الجدد.
كما شعر العديد منهم أنّهم محل إهمال زوجاتهم، ونظام الرعاية الصحية، والمجتمع.
بل وصل الأمر ببعضهم إلى الشعور بالانزعاج من الاحتياجات المستمرة للطفل.
وقد أقرَّ الفريق البحثي، بقيادة براندون إيدي، أستاذ العلاج النفسي الأسري والزوجي في جامعة نيفادا، بلاس فيغاس، بوجود العديد من نقاط القصور في الدراسة.
إذ لم يتمكن الباحثون من الوصول إلى الآباء لطرح أسئلة محدَّدة عليهم، أو للتحقُّق من هويتهم.
ولم يتمكن الفريق من التحقق مما إذا كان الآباء قد جرى تشخيصهم باكتئاب ما بعد الولادة على يد طبيب نفسي، أو أحد المختصين في الصحة النفسية.
كما لم تتوفر لديهم طريقة لمعرفة ما إذا كان الآباء قد أصيبوا بالاكتئاب مِن قبل، أو ما إذا كانوا مصابين بالاكتئاب حتى قبل ولادة الطفل.
تزايُد أدلة اكتئاب ما بعد الولادة للآباء
يمكن للرجال، كما النساء، أن يصابوا بالاكتئاب، ولكن لا يوجد مقياس محدد لتقييم اكتئاب ما بعد الولادة لدى الآباء، بخلاف الحال مع الأمهات.
وهذه ليست الدراسة الأولى التي تتناول هذا الأمر.
إذ ذكرت دراسة سكَّانية طولية أُجريت عام 2014 أن معدل الاكتئاب لدى الآباء على مستوى العالم يتراوح بين 5% إلى 10%.
وانتهت الدراسة إلى أن المعدل يكون أكثر ارتفاعاً لدى الآباء الذين لا يعيشون مع أطفالهم.
كما أنَّ الرجال الذين يعيشون مع أطفالهم تظهر عليهم أعراضٌ اكتئابية متزايدة، حين يصبح الأطفال في سن الخامسة.
وانتهت مراجعة أُجريت عام 2004 لمجموعة من الدراسات، إلى أنَّ الاكتئاب الأبوي تتراوح نسبته في أي مكان من 1.2% إلى 25.5% في المجتمعات التي أُخذت منها العينات.
غير أنَّ الاكتئاب في أوساط الرجال الذين تعاني زوجاتهم من اكتئاب ما بعد الولادة، قفز إلى نسبة 24% إلى 50%.
ووفقاً لعيادة مايو، فإن الآباء الشباب، ممن لديهم تاريخ من الإصابة بالاكتئاب أو لديهم مشكلات مالية أو مشكلات في العلاقات، أكثر عرضة للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة.
الأطباء يسجلون حالات اكتئاب في العيادات
يعمل الدكتور مايكل برودسكي مديراً للشؤون الطبية في LA Care Health Plan، وهو متخصصٌ في الخدمات الاجتماعية والصحة السلوكية في كاليفورنيا.
وقد صرَّح برودسكي لموقع Healthline أنَّ هذا البحث تحديداً، باعتباره دراسةً نوعيةً، لا يكشف عن كثير من التفاصيل حول الكيفية التي يتأثر بها الرجالُ باكتئاب ما بعد الولادة، أو عن المدة التي تستمر خلالها الإصابة.
وأضاف: "هذا لا ينفي أنَّ الدراسة بذلت جهداً طيباً في وصفِ أنواع الموضوعات التي ظهرت حين بدأ الآباء الجدد المكتئبون في الكتابة عن تجاربهم على شبكة الإنترنت"
ويشرح برودسكي أنَّ الدراسة تؤكد ما يراه ويلحظه أثناء الممارسة العيادية طوال الوقت.
وقال: "الآباء الشباب في سن الإنجاب ممن يسعون إلى دعم شريكاتهم وأطفالهم حديثي الولادة، عرضة للشعور بالإحباط أو الاكتئاب أو الإرهاق، أو بطغيان ضغوط الأبوة والتزاماتها عليهم".
وأضاف برودسكي أنَّ ضغوط الأبوة الجديدة ليست هي الأمر الوحيد الذي يُسبب مزاجاً اكتئابياً؛ إذ يمكن أن تُضاف عوامل أخرى إلى هذا الأمر".
وحول هذه العوامل قال مفسراً: "على سبيل المثال، يمكن أن يتأثر الأداء الوظيفي بنقص النوم المرتبط بالاعتناء بالمولود الجديد، مما يؤدي إلى زيادة الخلافات مع الرؤساء في العمل. أو يمكن أن يؤدي فقدان العلاقات الداعمة مع الأصدقاء أو الأقارب إلى تعميق شعور الأب الجديد بالاكتئاب أو اليأس. ويمكن أن تزيد أنواع الضغوط تلك من خطورة الإصابة بالاكتئاب".
يعمل الدكتور إيلان شابيرو، طبيب أطفال لدى AltaMed Health Services بكاليفورنيا، وهو زميل الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال.
ويتفق شابيرو مع وجهة النظر التي تقول إنَّ اكتئاب ما بعد الولادة يمكن أن يصيب الآباء أيضاً.
قال: "حين تتعرض بشكل مفرط للضغط، فإن هذا يؤثر في مستويات الكورتيزول وغيرها من الهرمونات المسؤولة عن الضغوط. وهذه الهرمونات جيدة، ولكن في ظل التوتر والضغط المستمرّين، فإنها تتلف جهاز المناعة. وعلينا أن نكون منتبهين لتقديم المساعدة لكل من يحتاجها".
بعض الرجال يجدون غضاضة في الحديث
شعر الآباء الذين أُجريت عليهم الدراسة بالضغط فيما يتعلق بالتوائم مع الصور النمطية التي تُلزمهم بلعب دور "الفتى الصُّلب"، والاحتفاظ بمشاعرهم لأنفسهم، خوفاً من الظهور بمظهر ضعيف.
ووفقاً للباحثين، فإنَّ الرجال أقل احتمالاً في السعي للحصول على مساعدة مهنية عند الإصابة بالاكتئاب من النساء.
وقال برودسكي إنَّه من غير السهل على الرجال الاعتراف بوجود أعراض للإصابة بالاكتئاب المرضي أو الحديث عن اكتئاب ما بعد الولادة.
وأضاف برودسكي: "بشكل أو بآخر، يمكن أن يكون من الأسهل على الرجال الحديث عن الاكتئاب، لأنَّ بعض المشاهير كانوا على استعداد لمناقشة معاناة مشابهة.
على سبيل المثال، تحدَّث فنان البوب جاستن بيبر عن معاناته مع الاكتئاب والسعي للعلاج".
وقال شابيرو إنَّ إقناع الرجال بالحديث عن هذه الحالة هو الخطوة الأولى.
وقال: "حين تكون في موضع الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، فإنك لا ترى النور. كل ما حولك يكون سلبياً في نظرك، لذا فإن الخروج من هذه الحالة أمر مهم لك ولأسرتك، ليس للأبوين فقط، وإنما للأطفال أيضاً. هذا هو الحافز الأكبر، أن تتعافى لتساعد أسرتك، إذا رأيت التغييرات التي يحدثها بك الضغط أكثر من المعتاد، عليك أن تدرك أن شيئاً ما غير صحيح يحدث، والأفضل أن تتحدث مع شخص عن ذلك".
تشخيص اكتئاب ما بعد الولادة
يمكن للرجال والنساء على حد سواء الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة.
إلا أنَّ برودسكي قال إنَّ النسخة الجديدة للكُتيب الإحصائي والتشخيصي للاضطرابات النفسية يُعرِّف "الاكتئاب بعد الولادة" بأنه ينبغي أن يحدث في غضون أربعة أسابيع قبل الولادة أو بعدها.
قال: "نتيجة لذلك، فإنَّ التشخيص مقتصر على النساء".
ووفقاً لبرودسكي، فإن علامات الإصابة بالاكتئاب العيادي لدى الرجال تضم:
- تغييرات في الشهية والنوم.
- انخفاض الاهتمام بالأنشطة الممتعة.
- وجود مشكلات في التركيز.
- تدني مستوى الطاقة.
- ويمكن أن تشمل الأعراض الشعور بالحزن والذنب ووجود أفكار لإيذاء الذات.
وقال برودسكي: "إذا كانت لديك أكثر من أربعة من تلك الأعراض في معظم الأيام لمدة أسبوعين أو أكثر، يمكن أن تكون مصاباً بالاكتئاب".
طلب العلاج
من المفيد أن يكون لدى الآباء الجدد شخصٌ يمكنهم الوثوق به، سواء كان هذا الشخص، أم الطفل الجديد، أو صديقاً أو قريباً أو زميلاً في العمل.
وأضاف برودسكي: "يمكن للآباء الجدد الاستفادة من فحوصات الطفل لاستشارة طبيب الأطفال، حول ما يعتريهم من شعور بالذهول من المسؤوليات الجديدة".
ودون التماس العلاج، يمكن أن تتصاعد الأمور.
وقال شابيرو: "عندما نهمل صحتنا وسلامتنا بشكل كامل، وكذلك حين نهمل الأفكار التي تعترينا لإيذاء الذات، لن نتمكن من الاعتناء بأنفسنا، ويمكن لهذا أن ينعكس على الأطفال".
وأضاف شابيرو: "ينبغي على الرجال أن يسعوا لتلقي العلاج من اكتئاب ما بعد الولادة، تماماً كما يسعون للعلاج من أي مشكلة بدنية".
وواصل: "دائماً ما استخدم مثال تناول الدواء عند الشعور بالصداع أو الإصابة بالعدوى. الأمر نفسه ينطبق على العقل حين يصاب بانعدام توازن كيميائي، يمكننا حينها علاجه بالدواء".
وأضاف: "نحتاج إلى جسر للحديث إلى شخص آخر لمواءمة أفكارنا ومشاعرنا. إذا كان هناك تفاعل كيميائي داخل المخ يعجل علاج الأمر أصعب، فإن علينا أن نسير في الاتجاهين في نفس الوقت، لنعمل على تحسين صحة الأسرة بأكملها في بعض الأحيان".
أطباء الأطفال يستطيعون كشف عوارض اكتئاب الآباء
ويقترح شابيرو أن يفحص أطباء الأطفال الآباء للتعرف على أعراض الاكتئاب العام في الأشهر الأولى بعد الولادة.
وقال: "يرى العديد من الآباء أطباء الأطفال أكثر مما يرون أطباءهم؛ لذا على أطباء الأطفال أن يكونوا منتبهين. نحتاج إلى فحص موضوعي كأن نطلب من الأمهات الإجابة بصراحة، ونعرف ما ينبغي فعله إذا حصل الشخص على درجة عالية في اختبار الاكتئاب. وهنا نلجأ إلى معالج نفسي أو عامل اجتماعي حاصل على ترخيص، ولكن هذا يتوقف على مكان وجود المريض. المهم بالنسبة للجميع أن يكونوا منتبهين، ويدركوا ما إذا كان هناك شيء ما على غير ما يُرام".