استقلت سارة، من هيأة الأطباء النفسيين في مصر ، سيارة أجرة من منزلها في حي الظاهر بالقاهرة إلى مقر عملها، لكن السائق رفض أن يُدخلها لبوابة المكان المريب، خاف أن يدخل إلى مستشفى الأمراض النفسية في العباسية المعروفة شعبياً باسم سراي المجانين .
وبالإضافة إلى المشاكل المهنية التي تواجهها الطبيبة المحجبة الشابة البالغة 31 عاماً؛ بسبب قلة الفرص المتاحة للأطباء النفسيين للعمل في المستشفيات بمصر عكس تخصصات أخرى كالباطنة والجراحة والعظام، تعاني عدم فهم كثير من الأشخاص طبيعة المرض النفسي.
تقول سارة -وهو اسم مستعار- إن البعض في مصر لديهم "أفكار مغلوطة" عن الطبيب النفسي، عندما يشعر أحدهم بتعب نفسي يلجأ إلى طبيب المخ والأعصاب وليس إلى الطبيب النفسي".
وأوضحت أن هناك أزمة أخرى تواجهها؛ وهي "عدم وعي" فئة كبيرة بطبيعة المرض النفسي وما يشعر به المريض، فبدلاً من أن يذهبوا به إلى الطبيب النفسي يلجأون إلى "دجالين وشيوخ فكِّ الأعمال".
يفضلون الدجالين على الأطباء النفسيين
وتدير الإدارة العامة للصحة النفسية في مصر 18 مستشفى ومركز صحة نفسية في أرجاء البلاد، بالإضافة إلى وجود مشاريع قيد الإنشاء.
وبحسب الإدارة، تتراوح نسبة انتشار الأمراض النفسية بين البالغين من سن 18 إلى 64 سنة من 10 إلى 12% بمتوسط عدد السكان البالغ 100 مليون نسمة، أي نحو 8 ملايين شخص يعانون مرضاً نفسياً.
ويتم حجز بعض هؤلاء المرضى، ومنهم من لا يحتاج سوى التردد على العيادات والمتابعة مع الطبيب.
وقالت سارة بحسرة، إن نصف مرضاها يأتون بعد شهور من التعامل مع الدجالين، "وعندما يشعرون بتحسُّن بسبب الأدوية التي نكتبها لهم يعتقدون أنّ التحسن من تأثير الدجال".
وترى مريم، زميلة سارة، أنّ تعامُل أهل المريض مع حالته أيضاً يعد مشكلة كبيرة في مصر، وكثير من الناس يُخفون طبيعة مرض أبنائهم النفسي، وإذا دخل المستشفى يقولون إنه مسافر أو يطلبون أن يكتب الأطباء تشخيصاً آخر.
وتؤكد الطبيبة النفسية أن "العلاج النفسي يستمر فترة طويلة حتى تظهر نتائجه على المريض، ولكن الأهالي لا يصبرون، والمريض هو من يدفع الثمن في النهاية".
وأوضحت أنه "على المستوى الشخصي، نواجه كأطباء نفسسين أسئلة بشكل يومي: هل تقابلين مجانين؟ رغم أنه علمياً لا يوجد مصطلح (مجنون)، اسمها الصحيح (اضطراب نفسي) مثل أي اضطراب عضوي".
وتابعت أنّ "الخوف من الذهاب إلى الطبيب النفسي منتشر جداً في مصر؛ بل والأكثر من ذلك هو رفض بعض الأسر مصاهرة الطبيب النفسي؛ خوفاً على بناتهم، ولكن الوضع مختلف بالطبقات الراقية التي بدأت في زيارة أطباء نفسيين".
بيت الشمس
توضح مريم أنّ إدارة مستشفى العباسية للأمراض النفسية قررت تسمية عيادة الأطفال هناك باسم "بيت شمس"؛ حتى تجذب الأسرة لزيارة العيادة مع أطفالهم المرضى.
ولكن رغم وجود العيادة في مبنى منفصل داخل المستشفى، تقول مريم إن الأطفال حين يبلغون 10 سنوات ويدركون أن العيادة داخل مستشفى نفسي يرفضون الحضور.
مؤخراً، أصبح هناك وعي في فئة الشباب بمرحلة العشرينيات والثلاثينيات تجاه الأمراض النفسية، بحسب ما تقوله مريم. وتضيف أن "وعي الإنترنت وكذلك انتشار الألعاب التي تساعد على الانتحار أسهماا في اللجوء إلى الطبيب النفسي".
وتقول الطبيبة الشابة إن "الطب النفسي مهدور حقه بمصر، الأطباء في حاجة إلى دورات تدريبية والسفر إلى الخارج للتعلم واكتساب المهارات".
وتضيف: "لا يوجد في المرض النفسي تدقيق علمي مثل الأشعات والتحاليل التي تظهر طبيعة المرض، يعتمد التشخيص على مهارة الطبيب وقدرته على استنطاق المريض".
وقال أخصائى الصحة النفسية والمتحدث باسم جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية للأمراض النفسية الدكتور أحمد حسين، إنّ "نسب وأعداد المرضى النفسيين ربما لا تكون دقيقة؛ بسبب عدم تبليغ الكثيرين عن أمراضهم النفسية، وخوفهم من وصمة العار من المجتمع".
الجهل بالمرض النفسي
من جانبه، يقول الطبيب النفسي ورئيس جمعية الطب النفسي في مصر، الدكتور أحمد عكاشة، لـ "عربي بوست"، إن "أزمة الطب النفسي في مصر ليست غريبة، فعمر مهنة الطبيب النفسي بالعالم كله نحو 200 سنة، وقبل ذلك كان من يقوم بهذا الدور الفلاسفة ورجال الدين".
ويضيف عكاشة أن "انتشار الجهل وقلة الثقافة بين المصريين، إلى جانب العادات والتقاليد الشرقية، أسهمت في عدم فهم طبيعة المرض النفسي ولا مهنة الطبيب النفسي".
ويرى عكاشة أن "انتشار الثقافة في الأجيال الجديدة والطبقات المتعلمة قد يساعد في تحسين البيئة المناسبة لعمل الطبيب النفسي".
وللتغلب على هذه الثقافة، أطلقت الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان حملة للتوعية بالمرض النفسي، تحت شعار "آن الأوان نعرف أكتر عن المرض النفسي".
وأقر المكتب الإقليمي للشرق الأوسط لمنظمة الصحة العالمية، في تقرير، بوجود "عدد من التحديات في مجال الصحة النفسية والخدمات الطبية النفسية بمصر".
وقالت المنظمة إن الأزمة تعود إلى أن "أغلب الموارد لعدد قليل من مستشفيات الطب النفسي المركزية الكبيرة. لكن عدد الأَسرَّة المتوافرة للمرضى النفسيين لا يزال غير كافٍ لتقديم الرعاية الإسعافية داخل المستشفى، وخاصة لأن 60% من الأَسرَّة يشغلها مرضى مدداً طويلة".
ومستويات الإنفاق العمومى على الصحة النفسية منخفضة جداً في البلدان المنخفضة ومتوسطة الدخل بواقع "2 دولار للفرد" فقط، كما أنّ متوسط العاملين بقطاع الصحة النفسية في البلاد هو شخص واحد لكل 100 ألف نسمة.
بيزنس الطب النفسي
وتردد 309.747 شخصاً على مستشفيات ومراكز الصحة النفسية بمصر في 2010، ثم ارتفع العدد إلى 430.620 في العام التالي، قبل أن يتراجع إلى 385.865 في 2012، في حين وصل إلى 4446.50 بالعام التالي له، قبل أن يصل إلى 472.895 في عام 2015، حسب أرقام الأمانة العامة للصحة النفسية.
وذكر الطبيب النفسي أحمد عبدالقادر أن مهنة الطب النفسي في مصر تحولت إلى "تجارة" أكثر بعد أن دخل على المهنة أشخاص لم يدرسوا الطب، وآخرون ينتحلون الصفة تحت أسماء مختلفة مثل "مدرب تنمية بشرية" أو "استشاري علاقات زوجية".
ويضيف أحمد، الذي يتولى مركزاً قيادياً في أحد أكبر مراكز الطب النفسي بالقاهرة، أن من المشاكل التي تواجه الطبيب النفسي هي "الصورة النمطية التي طبعتها السينما المصرية، فالمريض الذي يأتي إلى الطبيب يتوقع أن يخرج بحل لمشكلته، ولكن الواقع هو أننا نساعده على مواجهة مشكلته وليس حلها".
وأشار إلى أن "غياب الرقابة" يعد مشكلة أخرى تواجه الطب النفسي في مصر.
وأضاف أن أطباء كثيرين متخصصين بجراحة المخ والأعصاب في القاهرة يعملون بمجال الطب النفسي، أما خارج القاهرة فالعكس يحدث، متخصصو الطب النفسي يعملون في تخصص المخ والأعصاب؛ لعدم انتشار ثقافة الطب النفسي في الأقاليم.
المجتمع لم يتقبل بعدُ فكرة الأطباء المصريين في مصر
ويعتقد الكثيرون أن المشكلة هي خوف المرضى من الفضفضة والحكي للطبيب، ولكن الحقيقة هي أن الناس "لا تعرف أن تفضفض وتحكي؛ بسبب اعتقادهم أن الآخرين لا يفهمون مشاكلهم"، حسب عبد القادر.
وتقول شابة تبلغ 32 عاماً، وتتلقى علاجاً نفسياً منذ 5 سنوات لـ "عربي بوست"، إن "بداية الأمر كانت صعبة للغاية. كنت أخفي ترددي على مركز نفسي عن أصدقائي".
لكنها تابعت أنّ "الأمر تغيَّر كثيراً الآن، الكثير من معارفي يذهبون الآن لتلقي استشارات نفسية لمواجهة مشكلاتهم اليومية".
وشكت الشابة، التي تعمل محاسبة في شركة خاصة، من ارتفاع أسعار زيارات الأطباء النفسيين والأدوية.
أما أكثر مشكلة شخصية تواجهه، فيقول عنها أحمد: "عند مقابلة أشخاص لأول مرة ويعرفون مهنتي.. يخافون مني، أو يطلبون مني تحليل شخصايتهم".
ويقول الطبيب الشاب: "التحليل النفسي مدارس مختلفة ومَلَكة لا يملكها كثيرون، فليس من الطبيعي عندما أقابل شخصاً من أول مرة أن أحلل شخصيته".
وعن أغرب موقف تعرَّض له بسبب مهنته، يقول أحمد: "كان لديَّ مريضة نفسية بسبب مشكلة علاقة عاطفية مع خطيبها، ولديها مشكلة أسرية وأيضاً مدمنة. وفي أحد الأيام، قابلتها بالصدفة في مكان ما، وفوجئت بأن خطيبها كان بصحبتنا؛ فهو صديق لأحد معارفنا، وبمجرد أن شاهدتنا معاً ارتبك الموقف وخرجت تجري".
ورغم زيادة عدد المرضى والمترددين على عيادات الطب النفسي اليوم في مصر، بفضل الظروف السياسية والاقتصادية في السنوات الأخيرة، يفكر الطبيب أحمد، الحاصل على الزمالة البريطانية، في السفر إلى خارج مصر للحصول على درجة الماجستير، وربما الاستقرار؛ لأنّ "الظروف الاقتصادية والمهنية الآن في مصر لم تعد مناسِبة لمجال الطب النفسي".