عند زيارة أحد "البيوت البيئية" في الواحات المصرية، ستشعر أنك دخلت عالماً سحرياً، صنعت جدرانه من الملح والطين، وعناصر أخرى من قلب الطبيعة الصحراوية المحيطة. تخطف هذه البيوت الفريدة قلوب زوارها، خاصةً أن كل تفاصيلها تبدو كلوحات تستحق تجميد الزمان عندها، وضمن ذلك النوافذ، ودورات المياه وحتى الأركان العادية.
ما يسمى بـ"البناء البيئي" صار "موضة" تستعين بها الفنادق والموتيلات، والفيلات المتاحة لإقامة الزائرين، متخذة من بيئة الواحات إلهاماً، تستحيل معه التفاصيل العادية إلى رموز وعلامات.
البيوت البيئية.. سرطان وقلق أقل
تحولت فكرة البناء البيئي إلى قاعدة راسخة في الواحات المصرية، وضمن ذلك واحة سيوة، والداخلة، والخارجة، والبحرية، والفرافرة، وباريس، حيث لا يقتصر البناء البيئي على المنازل وحدها، بل يشمل أيضاً منشآت أخرى مثل البنوك على غرار بنك القاهرة والمصالح الحكومية، مثل مركز توثيق التراث في واحة سيوة وغيرها من المباني البيئية.
المهندس المصري والاستشاري العالمي رامز عزمي، المشرف على ترميم المتحف المصري، يشرح معنى "البناء البيئي" ويقول لـ"عربي بوست": "هو عبارة عن بناء متوافق مع الطبيعة، بداية من طريقة بنائه، مروراً بالخامات الطبيعية التي يتم استخدامها في البناء، كالطين والملح، وجذوع النخل، وغيرها من الخامات المحلية، وتتجلى مميزاته بعد البناء في انعدام استهلاك الطاقة داخله، واستخدام أشكال مختلفة كالطاقة النظيفة والمتجددة، والابتعاد في كل التفاصيل المستخدمة بالداخل عن الملوثات والكيماويات المسرطنة، ربما لهذه الأسباب تجذب الفنادق البيئية السياح، خاصةً أولئك الراغبين في خوض تجارب مختلفة داخل أماكن مميزة طبيعية، أو الراغبين في الاستمتاع بتجربة خاصة في أحضان الطبيعة".
المهندس الذي أشرف على ترميم قلعة شالي في سيوة، ومئذنة المسجد العتيق، قام بالتصميم الهندسي لواحد من أشهر فنادق العالم البيئية، فندق أدرار أملال في واحة سيوة والذي اختاره الملك تشارلز للإقامة به حين زار مصر عام 2006، يقول: "أحب الواحات إلى قلبي واحة سيوة، حيث صممت بها عدداً من المباني البيئية، ليس (أدرار أملال) وحده، ولكن أيضاً صممت فندق البابنشال، وفندق كنوز شالي، وفندق غالييت، وغيرها الكثير من المباني البيئية الحكومية والتجارية".
لم يخدم البناء البيئي، السياح وأهل الواحات وحسب، ولكنه قدم خدمات جليلة إلى أهل الفن أيضاً، حيث قام المهندس رامز عزمي، بمساعدة صناع مسلسل واحة الغروب، المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للروائي المصري الراحل بهاء طاهر، فقام المهندس المصري وزملاؤه بتصميم موقع تصوير بديل عن التصوير في واحة سيوة، بإحدى المناطق في الجيزة، وتم تأسيس ما يشبه الماكيت لواحة سيوة، وهو الأمر الذي لم يلحظه أحد قط حتى صرح أحد القائمين على المسلسل بالأمر.
فيلا صوصل
فيلا صوصل، هي إحدى منشآت "البناء البيئي" أيضاً، حيث يعيش النزلاء في هذه الفيلا في ضوء الشموع.
تقع فيلا صوصل في الواحات الداخلة، بمحافظة الوادي الجديد، ويعتبر النزول فيها تجربة فريدة من نوعها تماماً، بعيداً عن صخب المدينة وما فيها من الأجهزة الحديثة والإلكترونيات ووسائل التلهية. لذلك تكتسب أمور مثل "قعدة العصاري مع شاي النعناع" معنى مختلفاً تماماً في هذا المكان.
الفيلا التي أسستها الفنانة ميرفت عزمي عثمان، تم بناؤها بطريقة البناء البيئي، بالطوب الني، وخشب النخيل، والملح بتصميم مستوحى من مدينة القصر الإسلامية في الواحات الداخلة، حيث حولت كل ركن في المكان إلى لوحة فنية قائمة بذاتها.
تقول الباحثة والكاتبة المصرية سوسن الشريف، إنه في إطار عملها على مشروع كتاب حول "الواحات المصرية الست" زارت الفيلا التي تصفها بقولها: "لا يوجد ركن بالمكان إلا وينبض بالجمال والسحر والراحة والهدوء، فهو مكان يحتوي من يدخله، ويحمل عطر البيوت الدافئة، فضلاً عن أنه صحي جداً، ويدمج زائره في أجواء المكان، والبيئة الصحراوية المحيطة به، بطريقة مريحة وآمنة".
في مشروعها الذي استلزم زيارة 6 واحات مصرية، كانت الباحثة المصرية تفضل الفنادق البيئية على ما سواها؛ ما دفعها إلى تخصيص جزء من مشروعها لتوثيق البناء البيئي في الواحات، تقول: "الفنادق العادية موجودة في كل مكان، وتقدم مستويات مرتفعة من الرفاهية، لكنها تبقى في النهاية مجرد فنادق عادية، تم بناؤها على الطريقة الشائعة من طوب وإسمنت ومواد تشبّعنا بها".
تقارن الشريف بين فندقين في المدينة نفسها؛ "فندق الطرفة" وهو فندق يبدو بيئياً من الخارج، لكنه من الداخل عادي تماماً، و"فيلا صوصل" وهو فندق بيئي من الداخل والخارج، تقول: "جربت الاثنين، واكتشفت الفارق الضخم بين البناء البيئي الحقيقي والمتشبه به، في الفيلا المصنوعة من الطين والملح وجذوع النخل، كانت الحياة هادئة وبسيطة، وقربتني أكثر إلى ثقافة أهل الواحات، حتى إنني فقدت استمتاعي حين صرت أنزل بفنادق عادية، صارت الفنادق البيئية عشقاً من نوع خاص".
هل تصمد؟
لعل السؤال الأول، الذي يخطر لزائر تلك المباني هو مدى صمود تلك الجدران المبنية على الطريقة البيئية في مواجهة العوامل الجوية، وهو ذاته السؤال الذي خطر لثلاثة من الباحثين، أجروا دراسة بعنوان "التحقيق في ذكاء العمارة الأرضية منخفضة التقنية للصحراء"، والتي خلصت إلى صمود التقنيات التقليدية في البناء بصحاري مصر وواحاتها، في مواجهة اختبار الزمن، وأنها قد أثبتت فعاليتها وذكاءها في الاستجابة لكل من السياق الاجتماعي، والثقافي والمناخي، وهو ما أطلق عليه الباحثون الثلاثة "النهج المعماري الذكي".
لا تتعلق المسألة بالصمود وحسب، ولكنها تتعلق بالاستمتاع أصلاً، ففي دراسة مقارنة بين تقنيات البناء التقليدي والحديثة في الواحات، خلص باحثون إلى أن التقنيات التقليدية، مع بعض التحسينات أفضل وأكثر متانة وملائمة من طرق البناء الحديث، خاصة مع قدراتها الاستثنائية في عزل الحرارة، والتكلفة المنخفضة، وأنها صديقة للبيئة، الأمر الذي يخلق ما أطلقوا عليه "جودة بيئية داخلية ممتعة للسكان".