تعدّ السياحة قطاعاً حيوياً على مستوى بلدان العالم، وتعدّ أسلوب حياة وثقافة على مستوى الفرد، ولها منافع كثيرة من مواكبة الأحداث والعادات والتقاليد معيّنة التي تحاكي نمط عيش أي بلد تريد معرفته وتكوين تجربة شخصية عنهم، هكذا كانت رحلتي نحو مدينة غرداية جوهرة الصحراء التي تقع في شمال الصحراء.
فكانت أول مرة أكتشف مدينة جديدة من مدن الجزائر الفسيحة، فوقفت مدهوشة أمام الكم الهائل من التنوع الثقافي والعمراني التي تحتضنه ربوع المدينة، بدأت يومي أشاهد الناس وأبنية الشوارع والأسواق الشعبية التي تكوّن حضارة بأكملها تصف الواقع والتاريخ بأدق التفاصيل.
تتميّز المدينة بمكونات تاريخية ومعالم أثرية وعمارة قديمة ومساجد عتيقة، بالإضافة إلى اللغة الأمازيغية واللباس المزابي والمذهب الإباضي المحافظ على خصوصيتهم الدينية، ونمط معيشتهم الذي ساهم في بناء مجتمع، برغم تعدد العشائر ومبادئهم.
أما الجانب الثقافي للمدينة فيحتوي على شعراء أبرزهم مفدى زكرياء، وعلماء كبار.
تعلمت خلال رحلتي أن المدينة شهدت انتعاشاً ثقافياً من تاريخ الدولة الرستمية إلى اعتناقها المذهب الإباضي، فقد عملوا جاهدين على تواتر الفكر الإباضي للأجيال اللاحقة، كما تزخر المدينة بقصور أثرية متشابهة تستنشق منها عبق الماضي، وما يميّز طابعها العمراني هو وجود في كل درب بئر ونخلة يحيط بها سور حصين يعلو كل قصر برج ومسجد، ومن القصور العتيقة التي تبدو موحدة في شكلها متجانسة في ألوانها، وهي كالتالي:
– قصر (العطف) تأسس سنة 1012 م.
– قصر (بنورة) سنة 1046 م.
– قصر (غرداية) سنة 1053 م.
– قصر (بني يزغن) سنة 1353 م.
– قصر (مليكة) سنة 1355 م.
– قصر القرارة سنة 1630 م.
– قصر بريان سنة 1690 م.
– قصر متليلي القرن 14 م.
ولقد استفدت قدر المستطاع من خلال الغوص في هذا التنوع المثير للتساؤل حول الرموز البربرية التي تنسجها المرأة المزابية في الملابس الصوفية والزرابي التقليدية عالية الجودة، فكل رمز أمازيغي مطروز له دلالة معنوية عند الفن المزابي، أبرزها شموع ومفاتيح وغيرها من الرموز التي تشهد على الهوية والأصالة والحرفة التقليدية.
إن هذا الاختلاف والتنوع الثري هو امتياز لإقامة نهضة سياحية، والاستثمار في هذا المجال الحيوي بتطوير أساليب الضيافة والإقامة مع الحفاظ على الثوابت والطابع العمراني العتيق لكل منطقة وتوفير التكنولوجيا لتلبية رغبات السواح الأجانب وإقامة جمعيات تراثية تسعى لتحسين الحرف التقليدية، والتعريف بها للسائح الأجنبي، وتحسين الخدمات السياحية، وإعادة تأهيل المستخدمين والمأكولات التقليدية، وخلق مجال للإبداع من تسويق الملابس التقليدية بطريقة عصرية، وإقامة متاحف تعرّف بالهوية وحضارة ابن مزاب من لباس ولغة؛ لأن السياحة فن وإحساس وفكر.
بغض النظر عن مشاكل الجهوية التي تعاني منها الجزائر من اختلاف فكري ومذهبي، أصبح علينا تجاوزها، فلم تكن الدولة الإسلامية منغلقة على ذاتها ولم تمنع يوماً التواصل بين المسلمين والثقافات الأخرى، فما ذا حلَّ بنا ونحن داخل دولة واحدة أو بالأحرى مدينة صغيرة؟ فلماذا نحول الاختلافات إلى خلافات شائكة؟
يقول محمد الغزالي: إن الأرض لن يرثها دعاة الفتك ولا أولياء التخلف ولا حملة الكراهية، بل يرثها عباد الله الودعاء بناة الحق والحب صانعو السلام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.