ترِدني العديد من الأسئلة عما يحدث مع المهاجرين عبر المتوسط منذ لحظة إنقاذهم على سطح الأكواريوس أو السفن المشابهة، هذا السؤال الذي شغلني كثيراً لم أستطع أن أعرف إجابته بشكل كامل إلا بعد أن قضيت وقتاً كافياً بين المهاجرين والأطباء والمنقذين على متن إحدى سفن البحث والإنقاذ، لكن لكي ندرك ما يحدث علينا أن نعود بالزمن قليلاً للوراء.
في عام 2015 فقط خاض الرحلة عبر المتوسط مليون وخمسة عشر ألف مهاجر، توفّي في ذلك العام أكثر من 3700 شخص غرقاً في البحر بعد عدم استطاعتهم إكمال الرحلة، فيما كان من بين من استطاعوا الوصول 46٪ من النساء والأطفال.
هل تدرك ما يعنيه هذا الرقم؟ إننا نتحدث عن 2800 مهاجر يومياً طوال العام، وإذا ما استثنينا أيام الطقس السيئ والشتاء المانع من استقلال القوارب المطاطية المهترئة، فسنكون أمام الآلاف، وربما عشرات الآلاف في بعض الأحيان، من المهاجرين يومياً عبر المتوسط.
ومع تزايد أعداد العابرين، الذين يهربون من الحرب والفقر والديكتاتورية والتمييز، يتزايد جشع المهربين، وترتفع معه حسابات المخاطر إلى نسب غير مسبوقة، وهو ما ظهر في 2016، ببلوغ عدد من ابتلعهم البحر إلى حوالي 5000 قتيل مسجل، ويتوقع مَن تحدثنا إليهم أن تكون الأعداد الفعلية أكثر من ذلك.
لكن من يهاجرون لا يلتفتون كثيراً لنسب المخاطرة ولا احتمالات الوصول أو احتمالات الموت في الطريق، إنهم يخوضون الرحلة بكل ما يملكون، وأحياناً مع كل من يهتمون لأمرهم؛ إذ يهرب الناس إلى البحر فرادى وجماعات، أمهات مع أبنائهن، كما يرسل الآباء أبناءهم القُصَّر وحدهم في الرحلة المميتة على أمل أن يعيشوا حياة أفضل، وأن يجلبوا الخير لعوائلهم لاحقاً، يكفي أن تعلم أن نسبة الأطفال الذين يصلون إلى إيطاليا من غير المصحوبين بأحد البالغين تصل إلى 88٪ من الأطفال الواصلين إلى إيطاليا.
الصورة: طفل بين مجموعة من القُصّر الذين وصلوا إلى إيطاليا على متن قارب تم إنقاذه بواسطة أكواريوس
كذلك من بين المهاجرين نساء عزباوات، هربن من الحروب أو العنف أو الفقر، أو حتى تم تهريبهن بغرض الاتجار في الجنس أو الدعارة، وكثير من هؤلاء قد عشن حياة مريرة، وجرّبن الاغتصاب في بلدانهن، وكثيراً ما يتم اغتصابهن في بلد التهريب من قِبل المهربين وغيرهم، والعديد منهن يكنّ حوامل عندما يخُضن تجربة الهجرة.
يمر جميع مَن يخوض هذه التجربة تقريباً، رجالاً ونساء، بطريق وعر لا هوادة فيه، في البداية يأتون من بلدانهم هاربين أو مهاجرين لسبب أو لآخر، بعضهم يهاجر خشية الفقر، والآخر يهاجر خوفاً من الثأر، وثالث لأن الوضع في بلاده يهدد حياته، أما أغرب ما سمعت قصصهم كان ذلك الشاب الذي هرب بعد أن قام جده بقتل أخيه تضحية للآلهة في تلك القبيلة النيجيرية، واعتقاده أن جده سيضحي به هو الآخر لو ظل في بلده، القصة أخبرني بها أحد مسؤولي التواصل الثقافي مع المهاجرين في منظمة أطباء بلا حدود، والذي سمعها من المهاجر في عملية إنقاذ سابقة.
نتكلم هنا عن دول إفريقيا بالمجمل، وخاصة دول جنوب الصحراء، بداية من السودان وجنوبها، وإريتريا ومالي ونيجيريا وتشاد وبوركينافاسو وساحل العاج وإثيوبيا وحتى السنغال وغامبيا، وبعد ذلك يصلون إلى دولة يستطيعون منها الهجرة إلى الشمال، وفي حالتنا التي نرصد فيها مسار الهجرة عبر وسط البحر المتوسط، فإن هذه الدولة هي ليبيا.
يذهبون إلى ليبيا هرباً من الأوضاع في بلدانهم، أحياناً للعمل بهدف الاستقرار وأحياناً بهدف الإقامة المؤقتة لحين الانتظار والحصول على أموال تكفي لنفقات التهريب إلى الشمال، والتي تتراوح عادة بين 700 و1500 دينار ليبي، حسب الذين تحدثت إليهم.
"عبودية"، "جحيم حقيقي"، "لا فرق هناك بين عربي وغير عربي ما دمت أسود"، كانت هذه هي بعض الإجابات التي حصلت عليها عندما سألت عدداً من المهاجرين الأفارقة ومنهم سودانيون عرب عن رحلتهم في ليبيا، جميعهم تحدثوا عن اختطافهم لفترات متفاوتة من قِبل ميليشيات وعصابات ثم تطلب من أهلهم فدية لإطلاق سراحهم، بل إن بعضهم تحدث عن اختطافه أكثر من مرة من قِبل ميليشيات مختلفة في نفس المنطقة.
الصورة: عبدالله، شاب سوداني في السابعة والعشرين أقام في ليبيا تعرض للاختطاف قبل أن يُطلق سراحه بعد أن دفع فدية قبل أن يتوجه للمهربين ليهاجر عبر البحر.
في النهاية، يستطيعون جميعاً الفكاك من ذلك بدفع الفدية، إما عن طريق الأهل وإما عن طريق بعض الأصدقاء على سبيل الديْن عسير القضاء، لكن ذلك الاختطاف يعزز من رغبتهم في السفر سريعاً وبأي ثمن.
أخبرني بعض من تحدثت إليهم أنهم انطلقوا في رحلتهم في البحر من صبراتة التي تبعد قرابة 67 كيلومتراً عن العاصمة طرابلس، يفتشهم المهربون بشكل فظ ولا يسمحون لأي منهم بالسفر بأي شيء، لا هواتف، لا هويات ولا أوراق، لا شيء سوى أنفسهم وما يرتدون.
يتحدث تقرير حديث لـ"أطباء بلا حدود" أن المنظمة رصدت قوارب تنقلب بعد إمضائها ساعات أو أياماً أحياناً وهي تطفو دون هدف ودون محركات بعد أن انتزعها المهربون وغيرهم من المجرمين قبل أن يصبح من الممكن إنقاذها، فالمحركات هي أثمن ما في القارب المطاطي، ولذلك فإن منقذي منظمة SOS وأطباء بلا حدود يقومون بتفكيك هذه المحركات وإغراق القوارب، شاهدت بعيني "صيادين ليبيين" أرادوا الحصول على محرك لقارب تم إنقاذ من على متنه.
كذلك يقول مسؤولو "أطباء بلا حدود" إن العديد ممن تم إنقاذهم أخبروا أنهم "وضعوا في كهوف وأقبية وحفر تحت الأرض لأيام وأحياناً لأسابيع قبل إجبارهم على ركوب القوارب وإرسالهم في البحر"، كذلك سمعنا قصصاً عن عمليات قتل ومعاملة سيئة واعتداء جنسي وصلت في بعض الأحيان لتتحول إلى تعذيب مباشر.
بعض النساء اللاتي تم إنقاذهن أخبرن منسقي التواصل معهن أنهن مسافرات بغرض الاتجار في الجنس، وأنهن لا يرغبن السير في ذلك الطريق بعد أن أُجبرن عليه من البداية، كذلك أخبرتني قابلة على متن السفينة أكواريوس أنها قامت بتوليد فتاة عزباء، غالباً ما كان حملها قد حدث بعد حوادث اغتصاب متكررة.
هذا فقط جانب من الجوانب التي تتجلى فيها معاناة المهاجرين، لكن معاناتهم لا تنتهي عند ذلك، ففي جميع القوارب التي أنقذناها، لم يكن المهاجرون مجهزين بستر النجاة والطعام والمياه وغيرها من الإمدادات اللازمة لرحلتهم، ولا حتى بكمية كافية من الوقود، وهو الأمر الذي يؤكده تقرير سابق لـ"أطباء بلا حدود" أيضاً.
يمكن للقارب أن يحمل خمسة أشخاص، ويمكنه أن يحمل خمسين، لكن المهربين يجعلونه يكفي لمائتي شخص! كان آخر القوارب التي أنقذناها قارباً يسع لبضع عشرات على أكثر تقدير، لكن المهربين جعلوه ملاذاً لـ195 شخصاً! عندما وصلنا إلى هناك، كان اثنان منهما قد توفيا بعد أن غرقا داخل القارب، هل تتصورون ذلك؟ لقد غرقا بداخل القارب المطاطي في مياه لا تتعدى السنتيمترات القليلة بعد أن دعسهم رفاقهم فيما لم يستطيعا الوصول للهواء.
لكن كيف وصلنا إلى هذا القارب؟ وما الذي يحدث في أول تواصل بين المنقذين وبين المهاجرين؟ دعوني أخبركم بتفاصيل كل ذلك غداً!
الصورة: هذا القارب كان يضم 195 شخصاً عندما عثر عليه طاقم السفينة أكواريوس
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.