حياة المضيفات مختلفة تماماً عن حياة من يمتهنون أي مهنة أخرى، فالسحاب يحتضننا معظم الوقت وما تبقى منه نقضيه في بلدان مختلفة، وهذا ما كنت أحبه في مهنتي، أنا عاشقة للسفر حتى النخاع، ولكن لكل مهنة متاعبها التي لا يعلمها سوى من عمل بها.
عند عودتي من الهند، لم أجد "مارجو "صديقتي الروسية وشريكتي في السكن، ووجدت ورقة مطوية على الطاولة مكتوباً فيها: "عزيزتي نهى.. لقد قررت الانتقال للإقامة مع صديقي، أرجو أن تتصلي بي عند عودتك.. مع حبي.. مارجو".
اتصلت بها على عجل لأحذرها، مسكينة لم تكن تعلم أن سكن المضيفات مراقب بالكاميرات طوال الوقت، وأنه غير مسموح بالتأخر بعد الساعة 3 صباحاً، وممنوع منعاً باتاً المبيت خارج السكن، كما أنه ممنوع دخول أي زائر بعد العاشرة مساء، لم تكترث كثيراً بما قلته، قالت لي هناك الكثير من الفتيات اللاتي يُقيمن مع أصدقائهن ولم تتم معاقبتهن، ولكن للأسف خلال أيام وصلها جواب إنذار بالرفد، فعادت للسكن وهي خائفة من فكرة تفنيشها.
نادراً ما يتم إعطاء إنذار، في معظم الحالات يتم تفنيش الشخص دون إبداء أسباب، حسب ما ينص عليه عقد العمل، كما كان ينص على عدم التدخين وشرب الخمور داخل السكن، وقد كانت تتجاهل الفتيات تلك القوانين، بحجة من سيتلصص علينا داخل بيوتنا!! إلى أن تم تفتيش منزل إحداهن وطردت من العمل بسبب وجود عقب سيجارة بالمرحاض، نعم تم تفتيش المرحاض بعد أن وشت بها شريكتها في السكن "إن كيدهن عظيم".
كثير من الناس يعتقدون أن حياة المضيفات مثيرة وممتعة، ولكن لا يعلمون كمّ القيود التي تكبلنا، حتى إنه كان هناك شرط عدم الزواج خلال الـ5 سنوات الأولى من العمل، ورغم ذلك كانت بعض الفتيات يتزوجن في السر وأخريات كن يحصلن على موافقة من مدير عام الشركة شخصياً، والذي كان يتفنن في التدخل في كل صغيرة وكبيرة، هو ذكي جداً واجتهد كي يبني سمعة طيبة وصورة ذهنية راقية للشركة، ولكن كل ذلك على حساب الموظفين الذين أفنوا وقتهم ومجهودهم لخدمة الشركة، كل ذلك لم يوقف حالات التعسف مع معظمهم، والتي تنتهي بالتفنيش لأسباب تافهة جداً، منها أن لون الجوارب أفتح من لون البشرة، أو أنها لا ترتدي القبعة بشكل جيد، وكثير من الأسباب التافهة جداً، ويتم بسببها التخلص من الموظفين غير المرغوب فيهم.
هل وضعت قوانين العمل لحماية حقوق الموظف أم لهدرها؟! وكله بالقانون!!
لم تكن سياسة التفنيش حكراً على شركتنا فقط، لقد اكتشفت أن كثيراً من المؤسسات في دولٍ شتى تنتهج نفس الأسلوب، يتم الضغط على الموظفين ووضع قوانين تحجر على حقوقهم المشروعة، وإذا تذمر أحدهم يجد نفسه تم الاستغناء عنه بكل بساطة ضاربين سنوات اجتهاده وتعبه في خدمة المؤسسة عرض الحائط، ويتساءلون: لماذا يتركنا الموظفون عندما تسنح لهم الفرصة ويتهمونهم بعدم الولاء، أي ولاء هذا وقد نسفوه بسياساتهم غير الإنسانية؟
كنت سعيدة بعودة مارجو ووجودها معي في المنزل يقلل من شعوري بالوحدة، كنا نقضي أوقاتنا المنزلية في الطهي ومشاهدة الأفلام، خاصة أفلام الرعب والرقص على أنغام الموسيقى، حتى قررت أن تستقيل لتتزوج، كنت سعيدة لها وحزينة ليس فقط لأنني سأفتقدها، ولكن أيضاً لأنني سأعاود تجربة التأقلم مع شخصية جديدة، الله أعلم كيف ستكون.
سعدت بترقيتي للخدمة في درجة رجال الأعمال؛ حيث وجدت تغييراً في جدول رحلاتي ليشمل أسبوع تدريب على الخدمات الخاصة بتلك الدرجة، وقبل بدء دورة التدريب حظيت بـ4 أيام إجازة، قررت السفر إلى القاهرة لزيارة أهلي، وكنت قد قدمت الأوراق لاستضافة والدتي، وهو ما تسمح به قوانين الشركة؛ حيث يسمح للأبوين بالإقامة في السكن معنا مدة 15 يوماً، وقد انتهزت فرصة أسبوع التدريب كي أكون مع والدتي، من أفضل مميزات العمل في شركات الطيران ومن أسوأ المميزات أيضاً هي فرصة الحصول على تذاكر مخفضة؛ حيث ندفع 10% فقط من ثمن التذكرة، ولكن نظراً لأن تلك التذاكر مخفضة، تظل غير مؤكدة، ولذلك علينا أن نذهب للمطار ونجرب حظنا، إن وجد مكان في الطائرة أو إن أذن لنا قائد الطائرة بالسفر معه في كابينة القيادة؛ حيث يوجد كرسي إضافي لطاقم الضيافة، الذي أعتقد أنه تم منع السماح به أخيراً لأسباب أمنية، وإذا كانت الطائرة ممتلئة يتم رفض طلبنا ونعود بحقائبنا كي نعاود التجربة في اليوم التالي، مما يسبب انتهاء إجازاتنا دون سفر في معظم الأوقات وبشعور دفين بالحزن.
ونظراً لأني محظوظة في كل شيء، وبعد أن رتبت لعودتي ومعي والدتي للدوحة، لم أجد مقاعد متاحة في الطائرة، مما ترتب عليه تأجيل سفري لليوم التالي، عند وصولي كانت دورة التدريب بدأت وتمت تنحيتي من الكورس وتأجيل ترقيتي بسبب تأخري في العودة.
شعرت بالقهر، خصوصاً أن كثيراً من الفتيات تأخرن مثلي، ولكن لم تتم معاقبتهن هكذا، وأيضاً أمي التي أحضرتها معي كي أجلس معها الآن سأتركها لأسافر، بكيت كثيراً وتوجهت لمدير قسم الضيافة "ساليا" في محاولة لإثنائه عن معاقبتي، ولكنه أبى أن يسمع لي، خصوصاً أنني رفضت أن أكون عصفورته في بداية عملي، وأقول: "إن كيدهم أعظم".
وجدت رسالة من منظمي جداول الرحلات بتغيير جدولي؛ لكي أقوم برحلة إلى بانكوك، والتي كانت الأطول بين الرحلات؛ حيث نقضي فيها 10 أيام نقوم خلالها برحلة قصيرة إلى مانيلا، والعودة إلى بانكوك ثم العودة للدوحة، تلك الرحلة كان يتسابق عليها الكثيرون بسبب طول مدتها، وساعات الطيران التي تنصب في مرتب الشهر، ولكني كنت أفكر في الاعتذار عنها؛ نظراً لوجود أمي، كيف سأتركها وحدها وأسافر؟!
طرأت لي فكرة أن آخذها معي، ولِمَ لا؟، توجهت لمكتب القطرية وسألت عن الفيزا، التي اتضح أنها لا تحتاج لها، وبناء عليه قطعت لها التذكرة.
(يُتبع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.