حاولت أن أتذكر شعوري وعقلي يجمع الأعداد البسيطة ويستنتج حاصل الجمع وأنا في سنوات دراستي الأولى.
عملية الجمع البسيطة 1+2 يساوي 3، لا شك أخذت منّي بعض الوقت حتى استوعبها، لكني أتخيل أني فرحت باكتشاف منطق الرياضيات وبساطة الجمع.
أتذكر بوضوح أكثر وأنا في الصف الثالث، اكتشاف جدول الضرب وحفظه وسعادتي وأنا أستوعب المنطق في مضاعفة الأرقام.
ما أجمل الحساب! وما أجمل المنطق عندما يقع كل شيء في محله وعندما تأتي النتائج بالطريقة المنطقية والمحسوبة!
تعلمنا أن نبحث عن المنطق، وأن نفكر بالمنطق البسيط والعقل، وأن نبحث عن العلاقات المباشرة، لكن بعضنا اكتشف أن المنطق في كثير من الأحيان ليس طريقاً باتجاه واحد، وأنه متعدد الأبعاد والأوجه، وأن المنطق أحياناً يقود إلى الحيرة، لا إلى الاستنتاجات السهلة والمباشرة.
في صفوف المدرسة الأولى وعلى الرغم من حداثة أعمارنا كنا نبحث عن المنطق وعن العقل وعن العلاقات في العالم الذي من حولنا.
في الصف الرابع في مدرسة معاذ النموذجية، في مدينة تعز وفي خريف 1987، كنت أجلس في حصة التربية الإسلامية وأستاذنا يشرح لنا الفرق بين الفريضة والسنة.
وقف أمامنا الأستاذ وقال: "الذي يؤدي الفريضة كمن ينجح بدرجة 50% أو درجة مقبول ومن يؤدي السنة والفريضة كمن ينجح بدرجة 100 أو امتياز".
بحثنا عن المنطق في تلك الجملة ووجدناه سريعاً، من يعمل أكثر يجد الجزاء الأفضل، والفرض بخمسين والفريضة والسنة معاً بـ100، أو درجة امتياز.. منطقي جداً!
يدخل علينا أستاذ العلوم في نفس العام، ويشرح لنا عملية التمثيل الضوئي للنبات وكيف أن النبات يأخذ ثاني أكسيد الكربون من الهواء ويفرز الأكسجين ويسألنا أن نشرح فائدة النباتات بداخل البيوت، نستند إلى المنطق ونجيب على ذلك السؤال. بالطبع، في صفوفنا الدراسية الأولية كان العالم أسود وأبيض والإجابات "إما صح وإما خطأ".
بعدها كبرنا قليلاً وبدأنا نشعر بالمدرسة والمجتمع من حولنا يقدمون العالم إلينا باعتماد منطق بسيط يقود إلى معرفة الحق والباطل، والمصيب والمخطئ، وصاحب الحب وصاحب الباطل، ووجدنا أننا في القضايا الكبيرة دائماً على الحق وهم دائماً على الباطل، وما نفعله نحن هو عين الصواب وما يفعلونه هم خطأ، أما نحن فمعروف لنا ولقارئ الأسطر اليوم، وأما هم، فهم أي شخص أو جماعة يوصف بالآخر وجغرافية هذا الآخر يمكن أن تكون قريبة فيكون الآخر جاراً، أو قريباً، أو صديقاً، ويمكن أن تكون بعيدة فيكون صاحب بلدة أخرى، أو دين مختلف.
عدا بعض الفرص التي تشبع عطشنا للعلم والمنطق نجد أن تعليمنا يعتمد على إعطائنا جرعات اليقين التي يختار البعض أن يلقنها لنا باعتبارها الحقيقة التي يجب أن نعرفها ونؤمن بها، وكأن كل فكرة معارضة أو مغايرة هي فكرة خاطئة ولا تحمل أي مصداقية.
ربما يتجلى ذلك في دروس التاريخ التي كنا نستلذ في تعلمه ومعرفته وأسطره تخبرنا بأننا كنا الأقوى والأفضل، والأعرق حضارة.
لا أدري كيف يُدرس التاريخ في مصر، أو في بلدان الخليج والمغرب العربي لكن في اليمن يُختزل التاريخ في الحديث عن حضارات سبأ ومعين وحضرموت وأوسان وقتبان، ثم يعرج على الدويلات والممالك الصغيرة التي نشأت بعدها، ثم يصف أئمة اليمن بالكهنوتيين، ثم يذكر ثورة 26 سبتمبر/أيلول على أنها ثورة الخلاص، ثم يقفز الكُتاب إلى أن الرئيس صالح هو الزعيم المؤتمن.
محطات وأحداث وشخصيات كثيرة تجاوزتها كتب التاريخ في اليمن؛ لتتجه نحو تلقين المادة كغيرها من المواد بأسلوب تلقيني مفلتر لفائدة النظام ولخدمة الفكر والفلسفة المهيمنة في المجتمع، ولتقديمه بمنطق بسيط يتجه بالقارئ إلى استنتاجات مدعومة ومطلوبة مسبقاً.
كان التلقين في المدرسة يبسط الكثير من الأمور من حولنا، ويمنح عقولنا استراحة من التفكير والحيرة في أمور كثيرة، ويعطيها الفرصة لأن تركز على الأمور الأهم بالنسبة لنا مثل الأكل والشرب واللعب، ومع ذلك يظل للمنطق حلاوة ومتعة عند تلقيه والتفكر فيه.
في الصف الثاني الإعدادي تقريباً وفي حصة مادة التوحيد كرّر الأستاذ جملة كانت نموذجاً في المنطقية والعقلانية الجميلة التي استساغها عقلي في ذلك الوقت، قال: "البعرة تدل على البعير وأثر القدم يدل على المسير، فسماءٌ ذات أبراج وأرض ذات فجاج أفلا يدل ذلك على العليم الخبير؟!"، مقولة أعرابي تثبت وجود الخالق.
منطق واضح وسهل الاتباع، يجعلك تعتقد أن المنطق في كل الأمور والقضايا والقرارات من حولك يجب أن يكون كذلك.
من مخرجات ذلك النوع من التعليم أن يبدو العالم أوضح، وأن تكون المعطيات بديهية تدفع الكثير إلى إصدار أحكام سريعة وسهلة على القضايا والأشخاص والأحداث، يغلب عليها الإجماع الناتج عن التوجيه المجتمعي، الذي لا يشذ عنه إلا "المعتل" أو "المخبول" في نظر الآخرين.
منطق سهل التطبيق والاتباع، فالأحداث مختصرة وموجهة تدفعك باتجاه حكم واضح يعزز من فكرة أنك المظلوم أو أنك مع الحق، أو أنك الأحق، أو أنك مَن يستحق أكثر، وحتى بطولات أجدادك تظهر وكأنها أسمى من أي بطولات أخرى، بل إن تاريخهم خالٍ من أيٍ من الأخطاء الإنسانية.
في قاعات الجامعة الأميركية التي درست فيها بدأت أدرك أن الأمور أكثر تعقيداً مما تبدو عليه.
في مادة العلوم السياسية، وهي من متطلبات الجامعة، عمل الدكتور المحاضر خلال فصل دراسي كامل من خلال كتاب عنوانه الديمقراطية للقليلين Democracy for the few أن ينسف نظام الرأسمالية الذي تعتمده أميركا حتى ظننت أنه شيوعي مندس في المجتمع الأميركي.
زرع الدكتور بذور الشك في عقلي بأن نظام الرأسمالية بالفعل لم يكن نظاماً مثالياً بل ويمكن اعتباره نظاماً ظالماً اعتماداً على ما ورد في الكتاب.
في قاعة أخرى، وأثناء دراستي لمادة التاريخ وهي أحد المتطلبات لتخصصي، ناقش الدكتور تاريخ إنشاء الدولة الأميركية، والأفكار الفلسفية والمحطات التاريخية التي صاحبت نشأتها، لكنه في كل محاضرة كان يذكرنا بشيئين: الأول هو أن التاريخ يكتب عن "نحن" و"هم"، وهم دائماً الشياطين، ونحن دائماً الملائكة، أما الشيء الثاني فهو أننا لا يمكن أن نقرأ التاريخ بدون التفكير بخلفية كاتبيه ودوافعهم ومصالحهم، وبالتالي تأثيرهم في تقديمه بالطريقة التي نقرأها.
في إحدى محاضرات الفلسفة في جامعة بروكلين وفي مبناها الأقدم مبنى بويلان طرحت الدكتورة سؤالاً بسيطاً، قالت: "لو سقطت شجرة في غابة بعيدة ليس بها إنسان هل تحدث صوتاً؟" بالطبع ستحدث صوتاً، كان هذا هو المنطق الأبسط للتفكير بالمسألة، كان هذا هو منطق "البعرة تدل على البعير" لكن لا، المنطق هنا مختلف! المنطق هنا يدفعنا إلى التفكر وإلى الحيرة وإلى الاختلاف وإلى القول بأنه بالتأكيد سيكون هناك صوت، بينما يرجح آخرون أنه ما دام أنه ليس هناك إنسان ولا جهاز استشعار لإدراك الصوت فالنسبة لنا ذلك لن يصدر.
المنطق الذي نتعلمه في مدارسنا ومجتمعاتنا العربية منطق يتعمد تبسيط الأمور بناءً على معطيات غالباً ما تكون ناقصة حتى نصل إلى قناعات تبدو مسلّمة ومطلوبة لاستمرار المنظومات الحاكمة الموجودة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.