"العلم لا يكيل بالباذنجان" المقولة الأشهر من مسرحية عادل إمام الشهيرة "مدرسة المشاغبين" المعروفة بجرأتها وخروجها عن الطابع المعروف للمسرحيات المصرية قديماً، فأول ظهور للمسرحية كما أذكر شكَّل نقلة نوعية للكلام المباح وغير المباح وقتها.
عندما قارن عادل إمام الباذنجان بالعلم كان بالفعل وقتها العلم يؤخذ مأخذ الهزل بالمقارنة مع الأسعار الخيالية والاقتصاد الذي تشهده البلاد، فلم يكن يعنيه إلا أن يذكرنا أن هناكَ زماناً سيأتي سيصبح كما قال "العلم أصبح يكيل بالباذنجان"، وكل مَن هبّ ودب عالم بكل شيء، حتى إنني قبل فترة وجدت مقالاً يتحدث عن عدم فائدة الجامعات، وأنها لا تفيد ولا تغني من جوع.
فبين النسق والسياق قدر مشترك في أن كليهما يشتركُ في معنى "الانتظام"، فالسياقُ -في المعنى المتبادر طبعاً- هو ما تفيدهُ الكلماتُ التي نظّمت ورُصفت فنشأَ عنها جملٌ تشيرُ بمجموعها إلى مدلولٍ كليٍ معين، وبهذا فإن فصْلَ تلك الكلمات والجملِ وتفكيكها سيؤدي إلى زوال ذلك المعنى الكلي وتفككهِ، أي أنّ المعنى "السّياقي" اختفى لتبقى الكلماتُ بمدلولاتها الجزئية، ولهذا فإن هذا السياق ذا المعنى المتجاوز لمفرداته هو -مثلاً- من سيحددُ معنى مفردة ذات معانٍ متعددة محتملة، فكثيراً ما تجدهم يقولون في هذا النوع من الكلمات المتعددة المعاني: "يُفهمُ معناها من السياق"، ومنها مثلاً تلك الكلمات المسمّاة بالمشترك اللفظي وهذا ما فعلهُ الرجل في مقالِه.
المعرفة واستباق العلوم لا يتأتى دون الجامعة، ومفتقر للعلم من يفهم أننا يمكن أن نتمكن من علوم دون توجيه واضحٍ، فالكتاب لا يصنعُ مفكراً؛ بل القراءة الرشيدة للكتاب هي من تكشفُ مستوى القارئ، ولذا فبعضُ الكتب تحتاج تهيئةً معرفية مسبقة قبل الشروع في قراءتها، وهذه لا تأتي عشوائياً، والجامعة تمنحُ الفرصة، فكلُ كتاب جيد ينطوي على فكرة رئيسية، بالإضافة إلى شواهد وأدلة وتعليلات لتلك الفكرة، فالقارئ العادي يكتفي بهذه الأشياء كـ"معلومات" دون الفكرة الناظمة لها، ولذا فالثراءُ المعلوماتي يختلفُ عن العمق الفكري الذي توفره.
علينا أن نفهم أن نسبة بعض الأشياء إلى أشياء أخرى يعتريها الكثيرُ من المجاز والتساهل، ومن ثمَّ المسامحة في الإطلاق، وهذا مما ينطبقُ على ما نسميه "التخصص المعرفي"، فهو أدق حينما يُضافُ إلى العلوم لا الأشخاص، فالعلومُ هي ما يتمتّعُ بالبناء المعرفي، وبقدر ما كانت متماسكة ومتسقة ومنطقية، بقدر ما كان بناؤها محكماً متيناً.
فالأستاذ الجامعي يمنحنا هذه الأدوات للتعاطي مع العلوم، فنحنُ نقول -مثلاً- إن ما يميز علم النفس عن علم الاجتماع هو أن لكلٍ منهما موضوعاً ومنهجاً، وبغض النظر عن الاختلافات التي تنشأ بين المشتغلين بتلك العلوم، فإن لكلٍ منهما بناءً معرفياً مختلفاً عن الآخر، وهو -بالنهاية- ما تمخّضَ عنه تفاعلُ المنهج بالموضوع، وبهذا تتضح الحدود الفاصلة بين العلوم، مع أن الفصل افتراضي في الكثير من الأحيان ألجأت إليه الضرورات البحثية.
إن المنهج الذي تمنحه الجامعات -كما قد أشرتُ سابقاً- هو من نظّم التعامل مع الظواهر محلَ البحث، فقنّن التعاطي وابتكر من الآليات والوسائل بحيثُ يُستخرجُ أو يُستنبطُ من المعلومات المبثوثة وحدةً كامنة، كما لو كانت هي الخيط الناظم لتلك المعطيات الكثيرة، أي أنه البناء الداخلي، ومثلاً كما اكتشفَ الاجتماعيون ما سمّوه "الظواهر الاجتماعية"، وأنها متميزة من حيث الدوافع والمحركات عن تلك التي للأفراد المكونين لها، أي أن المجموع ليس هو مجرد الأفراد المجتمعين، بل هو شيء آخر مختلف، ومن دلائل ذلك أن المجتمع هو من يطبع أفراده، في حين أننا نظن أنهم -هم- من يصنعونه، فصار المجتمع كمصنع يعمل بالبشر لإنتاج البشر، أي أن السلع هي نفسها المصنع، وهذه بحق مفارقة ظريفة.
إن تحديد موضوعات العلوم، ثم اشتقاق مناهج البحث فيها هو ما سيؤدي إلى اكتشاف القوانين المحرّكة لهذه الظاهرة أو تلك، وصدقني لن تتمكن من اكتشافها بنفسك دون مساعدةِ من متخصص فهو الوسيط الشارح، وكلُ هذا ما يُعبّر عنه بـ"البناءات المعرفية للعلوم"، أي أنها مجموع: الموضوع، والمنهج، ما أفضى إليه تلاقحهما من نتائج واستنتاجات، ولذلك فإننا -كقراء طموحين- نتطلّعُ إلى فهم تلك الأبنية المعرفية في شتى العلوم، وفهمُها يعني إدراك الخلفيات الفكرية التي أدت إلى تلك العمليات البحثية والجدالية بين علماء تلك التخصصات، على مستوى تحديد موضوعاتها، وعلى مستوى تحديد مناهج البحث فيها.
وعندما نتعمّقُ قليلاً فإننا سننتقلُ إلى البحث فيما وراء المنهج، أي المتكآت الفلسفية للمناهج، وكلُ هذا سيجعلُ ممارساتنا القرائية متعاليةً على مجرد النهل المعلوماتي الساذج، وهو مما سيحررُنا من الارتهان من معضلة النقل الصوري عن الآخرين، فصحيحٌ أن النص ناقل للمعرفة، لكنه قد يتحوّل إلى نوعٍ من الحاجز دونها عبر الممارسات القرائية التسليمية، وهو ما سيؤدي إلى انعدام الحاسّة النقدية، وهنا تنقلبُ مهمة النص -الذي يُفترض أن يكون حاوياً أو ناقلاً للمعرفة- إلى مناقضٍ لها، ولا ذنب للنص هنا، بل القارئ هو المذنب.
التخصص المعرفي ما هو إلا مجموع ما يتحصل من تفاعل الموضوع بمنهجه، وهذا يعني أن الطالب يكتشف البناءات المعرفية ولا يصطنعها، وأن القارئ الجيد هو من يستطيع ذلك عبرَ اكتناه العلوم، بالتوغل والنفوذ إلى أبنيتها المعرفية، وربما من كل ذلك سيستطيع هو أن يشيد لنفسه بناء معرفياً خاصاً، لكن يبدو أنها مرحلة متقدمة جداً، لكن -كما قال بعضُ الأصوليين-: "طرقُ الاجتهاد تبدأ من التقليد"، أي أن المجتهد هو مقلّدٌ أولَ أمره، لكنه برع ففاقَ أترابَهُ، بمعنى أن كبار المفكرين هم قراءٌ جيدون أولاً، أي توصّلوا إلى الأبنية المعرفية فيما يقرؤونه حتى صاغوا لأنفسهم نظريات ومناهج عامة.
أخيراً إن الإلمام بأكبر قدر من العلوم طيب ومطلوب بلا شك، فالاطلاعُ الواسع المتخطي لحدود التخصص الأكاديمي مطمحٌ لكل منشغل بالهم العلمي والمعرفي عموماً؛ إذ العلوم -وإن اختلفت مناهجها وموضوعاتها- تهدفُ إلى غايةٍ مبدئية واحدة هي "المعرفة"، ثم تَشتقُ من هذه الغاية -بعد إدراكها- مقاصد وغايات أخرى، وهي غالباً نفعية وعملية، لكن المعرفة كانت أولاً.
والاطلاع الذي أقصده وأشيد به عموماً هو المحاولة الدائبة للتوصّل إلى فهم الأبنية المنهجية للعلوم ثم الانطلاق -ما أمكن- إلى معطياتها المعرفية بعد ذلك، فليست هي إذاً بالقراءات العابرة التي ربما تضيفُ إلينا كمّاً معلوماتياً قليلَ النفع في الحقيقة؛ لأنني أرى أن المعلومة تجعلك تعرف، أما المعرفة فهذا يعني أنك تفهم، والفهم أكثر من مجرد المعرفة.. والمعرفة مقيد بمنهج، والمنهج مقيد بالجامعة، فالزموا جامعاتكم يرحمكم الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.