ذكريات شاب مصري في الثانوية العامة 1/2

كلما مضت الأيام كان الضغط النفسي يزداد، الأسرة كانت تزيد هذا الضغط برفع سقف طموحاتها.. "شِد حيلك يا ابني عاوزين مهندس" (أو دكتور)، وكأن الدولة ستنهض بالمهندسين والدكاترة فقط هل يمكن حل أزمة القمامة والمزبلة

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/08 الساعة 07:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/08 الساعة 07:48 بتوقيت غرينتش

محلوظة: هذه التدوينة بها بعض الكلمات باللهجة العاملية المصرية

بداية أعتذر عن عدم الالتزام الكامل بقواعد اللغة العربية أو قواعد المقال لرغبتى المفرطة في التعبير عن طالب الثانوية العامة والفترة التي يعيشها.

كتبت هذه الكلمات منذ عامين خلال فصلي الدراسي الأول بالجامعة قبل أن تتلاشى التجارب والأحداث المريرة للثانوية العامة من جوانب ذاكرتي الضعيفة.. لا شك أننا جميعاً قد مررنا بهذه التجربة، أو سنمر بها، أو ربما نمر بها الآن، وفي كل الأحوال فهي تجربة تستحق الكتابة عنها، قد يكون ذلك للذكرى وللتاريخ، وليعلم الناس ما يمر به طلبة الثانوية العامة.

بدأ العام الدراسي بعد أن قضينا العام السابق في لهو ولعب أو "خمر ونساء"، كما يقولون، وبالطبع بدأ ككل الأيام، ولكن هذه المرة لم يذهب 99% من الطلاب إلى مدارسهم، ولن يستيقظوا في السادسة صباحاً، أو يقفوا في هذا الطابور الممل، وإنما سنستيقظ في العاشرة لنفطر بهدوء، وقد يكون ما قلته مغرياً بالفعل في الأيام الأولى، فالدروس الخصوصية ما زالت قليلة (لم نبدأ جميع المواد بعد)، والواجبات لم تتكاثر علينا حتى الآن، ومع ذلك شعرت شعوراً غامضاً بعد أن بدأنا جميع المواد، شعوراً يجعل معدتي تتوعك، ولكن ما هو الشيء المختلف؟ لم أكن أعلم، أضحك كثيراً عندما أتذكر مقولتي لصديقي في الأسبوع الثاني "أليست الثانوية العامة سهلة بعكس ما يقولون؟".

كم كنا "سذج أغبياء"!

بعد شهر واحد بدأنا نتذوق مرارة العربي ونتجرع من غباوته، تباً للأدب، نحن قليلو الأدب أصلاً لماذا ندرس الأدب؟ ومتى ظهر في العربي كل هذه الأساليب البلاغية والبديع والبيان ربّاه! ماذا كنت أدرس في العامين الماضيين، تذكرت مقولة صديقي "نحن مقبلون على أيام سوداء".. وبالفعل بدأت الفيزياء تأخذ منحدراً غريباً.. أقسم بالله كنت أفهمها وأذاكرها بمنتهى الجد والإتقان، ومع ذلك درجات الامتحانات الشهرية لم تكن توافق الرأي نفسه، فقد كانت تعبر أكثر عن درجة حرارة الجو في سيبيريا شتاء أو عما يجمعه الزمالك من أجوان في الدوري المصري..

وبدأت الحياة تأخذ مجرى مخيفا للغاية… جملة "قوم ذاكر" و"شوف اللي وراك" أصبحت أسمعها أكثر من فترة جلوسي على الفيسبوك، بدأ من حولي يشعرونني بالورطة التي أنا قابع بها… حتى أقاربي الذين أصبحت أراهم كل شهرين مرة بدأت تتردد على ألسنتهم جُمل مثل "شد حيلك".. "سنة وحتعدي".. وأفظع ما في الموضوع هو تلك النظرة.. نظرة الشفقة التي ينظر لنا بها الناس كلما أخبرتهم بأني في الثانوية العامة.. هذه النظرة المقيتة التي يصحبها غالباً تربيتة على الكتف أو دعاء قصير مثل ربنا يوفقك.. وفي غضون وقت قصير توقف المدرسون الخصوصيون عن ترديد أسطوانة "أنا بإذن الله حخليكو تجيبوا الدرجة النهائية وحتاكلوا المادة أسرع من الملوخية"، بعد أن ضمن كل مدرس من هؤلاء طلابه وبدأوا يعرفوننا على إبداعاتهم في امتحان نهاية كل شهر، وكانوا يتلذذون بإظهار عجزنا عن إجابة بعض الأسئلة، وهذا كله بالإضافة للامتحانات القصيرة لتي كانت تعقد كل أسبوع في كل مادة.. بدأت النحافة والهالات السوداء تحت الأعين تظهر على بعض الأشخاص، وآخرون ازدادوا عشرات الكيلوغرامات.. أصبحنا جميعاً نبدو كبعضنا البعض.. نفس البريق الفضي في الأعين.. ذلك البريق الذي يوحي بالاحتضار… ذلك البريق الذي يريد تحطيم أسوار الأعين ليصرخ قائلاً: "بتعملوا فينا كده ليه؟!".

خلال سَيرك في الشارع قد ترانا كمجموعات مكونة عادة من خمسة أفراد.. نجلس على السيارات بجانب السناتر.. ننتظر الدرس القادم كما تنتظر الخرفان موعد ذبحها… وإذا أطرقت أذنك بيننا ستستمع فقط إلى جمل مثل: "المستر حط علينا في الامتحان يا رجالة، أنا مش عارف حنعدي إزاي في آخر السنة، وإحنا بنشيل من دلوقتي"، "أنا ما عملتش الواجب ما تجيب يا أسطى أنقله في السريع عشان أدخل بس".. يا إلهي.. أين ذهبت الكرة وكول أوف ديوتي وأساسينز كريد والبلاي ستيشن؟ أين ذهبت كل تلك الموضوعات الشبابية الشيقة التي كنا لا نمل من التحدث فيها؟!

هل تحولنا جميعاً إلى كائنات روتينية لا تعرف إلا المذاكرة؟ نبدو كمدمني الهيروين من قلة النوم، لا أعلم ماذا كنا نأكل أو متى، ولكن ما أتذكره أني كنت آكل أول ما تقع عليه يداي بدون استطعام أو تذوق أو حتى اختيار للمكان الذي سنأكل فيه.. أحياناً نفطر في "جاد" وأحيانا أخرى فول وبطاطس من أم محمد.. وبالطبع لا مانع من اغتصاب ما في الثلاجة بين هذا الدرس أو ذاك.

كلما مضت الأيام كان الضغط النفسي يزداد، الأسرة كانت تزيد هذا الضغط برفع سقف طموحاتها.. "شِد حيلك يا ابني عاوزين مهندس" (أو دكتور)، وكأن الدولة ستنهض بالمهندسين والدكاترة فقط هل يمكن حل أزمة القمامة والمزبلة التي نعيش فيها مثلاً بزيادة عدد المهندسين؟ هل يمكن حل مشكلة المرور أو التعليم بزيادة عدد الدكاترة؟ أنا لا أعارض هاتين الوظيفتين… ولكن ما أريد إيصاله أن وضع الأهل لفكرة أن الابن لا بد أن يصبح طبيباً أو مهندساً؛ لكي يصبح ناجحاً فهذا سلوك خاطئ تماماً، ولكن على الابن أن يختار الطريق الذي يحبه ويصلح أن يمشي فيه، وإلا حدث اختلال كامل في المنظومة التعليمية كلها (هذا في حالة وجود منظومة تعليمية).. لنعد إلى موضوعنا.. أغرقنا المدرسون الخصوصيون في بحر من الواجبات لا نهاية له، أصبح واجب كل مادة يتجاوز العشرين صفحة.

هذا غير حصص المراجعات التي يفرض المدرسون علينا حضورها، أما الإجازات الرسمية فلم تكن تعنينا في شيء وكأننا في كوكب آخر، أتذكر أنني كنت أمتحن في أيام الجمعة والعطلات الرسمية مثل 6 أكتوبر مثلاً… وعند اندلاع الثورات أو الانفجارات أو دخول "داعش" فإن طالب الثانوية العامة دروسه لا تؤجل أبداً، وكأنه لا يحمل الجنسية المصرية من الأساس لمدة عام!

"يُتبع"

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد